للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَدَبَّرَتْ مَا أُمِرَتْ بِتَدْبِيرِهِ، فَتَكُونُ هَذِهِ أَفْعَالًا يَتَّصِلُ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ، كَقَوْلِهِ: قَامَ زَيْدٌ فَذَهَبَ. وَلَمَّا سَبَقُوا فِي الطَّاعَاتِ وَسَارَعُوا إِلَيْهَا ظَهَرَتْ أَمَانَتُهُمْ فَفَوَّضَ إِلَيْهِمُ التَّدْبِيرَ. وَيُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّ السَّبْقَ لَا يَكُونُ سَبَبًا لِلتَّدْبِيرِ كَسَبَبِيَّةِ السَّبْحِ لِلسَّبْقِ وَالْقِيَامِ لِلذَّهَابِ، وَمُجَرَّدُ الِاتِّصَالِ لَا يُوجِبُ السَّبَبِيَّةَ وَالْمُسَبَّبِيَّةَ. وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ الْعَطْفُ بِالْفَاءِ فِي الْمُدَبِّرَاتِ طُوبِقَ بِهِ مَا قَبْلُهُ مِنْ عَطْفِ السَّابِقَاتِ بِالْفَاءِ، وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى نُكْتَةٍ كَمَا احْتَاجَ إِلَيْهَا مَا قَبْلَهُ لِأَنَّ النُّكْتَةَ إِنَّمَا تُطْلَبُ لِمُخَالَفَةِ اللَّاحِقِ لِلسَّابِقِ لَا لِمُطَابَقَتِهِ وَمُوَافَقَتِهِ فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ هُنَا الْمَلَائِكَةُ. وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَالثَّانِي: أَنَّهَا الْكَوَاكِبُ السَّبْعُ، حَكَاهُ خَالِدُ بْنُ مَعْدَانَ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ. وَفِي تَدْبِيرِهَا الْأَمْرَ وجهان: أحدهما: تدبّر طلوعها وأفولها. الثاني: تدبّر ما قضاه الله فِيهَا مِنَ الْأَحْوَالِ. وَمَعْنَى تَدْبِيرِ الْمَلَائِكَةِ لِلْأَمْرِ نُزُولُهَا بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَتَفْصِيلُهُمَا وَالْفَاعِلُ لِلتَّدْبِيرِ فِي الْحَقِيقَةِ وَإِنْ كَانَ هُوَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، لَكِنْ لَمَّا نَزَلَتِ الْمَلَائِكَةُ بِهِ وُصِفَتْ بِهِ. وَقِيلَ:

إِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَمَّا أُمِرَتْ بِتَدْبِيرِ أَهْلِ الْأَرْضِ فِي الرِّيَاحِ وَالْأَمْطَارِ وَغَيْرِ ذَلِكَ قِيلَ لها: مدبرات. قال عبد الرّحمن ابن سَابَاطٍ: تَدْبِيرُ أَمْرِ الدُّنْيَا إِلَى أَرْبَعَةٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ: جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ وَعِزْرَائِيلُ وَإِسْرَافِيلُ، فَأَمَّا جِبْرِيلُ فموكل بالرياح والجنود، وأما ميكائيل فمو كل بالقطر والنبات، وأما عزرائيل فمو كل بِقَبْضِ الْأَنْفُسِ، وَأَمَّا إِسْرَافِيلُ فَهُوَ يَنْزِلُ بِالْأَمْرِ عَلَيْهِمْ، وَجَوَابُ الْقَسَمِ بِهَذِهِ الْأُمُورِ الَّتِي أَقْسَمَ اللَّهُ بِهَا مَحْذُوفٌ، أَيْ: وَالنَّازِعَاتِ، وَكَذَا وَكَذَا لَتُبْعَثُنَّ. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَحُذِفَ لِمَعْرِفَةِ السَّامِعِينَ بِهِ، ويدل عليه قوله: أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً «١» وَقِيلَ:

إِنَّ جَوَابَ الْقَسَمِ قَوْلُهُ: إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى «٢» أي: إن في يوم القيامة ذكر وموسى وَفِرْعَوْنَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى. قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: وَهَذَا قَبِيحٌ لِأَنَّ الْكَلَامَ قَدْ طَالَ بَيْنَهُمَا، وَقِيلَ: جَوَابُ الْقَسَمِ هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى «٣» لِأَنَّ الْمَعْنَى: قَدْ أَتَاكَ، وَهَذَا ضَعِيفٌ جِدًّا. وَقِيلَ: الْجَوَابُ يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ عَلَى تَقْدِيرٍ: ليوم تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ. وَقَالَ السِّجِسْتَانِيُّ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مِنَ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، كَأَنَّهُ قَالَ: فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ وَالنَّازِعَاتِ. قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ الْفَاءَ لَا يُفْتَتَحُ بِهَا الْكَلَامُ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ انْتِصَابُ هَذَا الظَّرْفِ بِالْجَوَابِ الْمُقَدَّرِ لِلْقَسَمِ، أَوْ بِإِضْمَارِ: اذْكُرْ، وَالرَّاجِفَةُ:

الْمُضْطَرِبَةُ، يُقَالُ: رَجَفَ يَرْجُفُ إِذَا اضْطَرَبَ، وَالْمُرَادُ هُنَا الصَّيْحَةُ الْعَظِيمَةُ الَّتِي فِيهَا تَرَدُّدٌ وَاضْطِرَابٌ كَالرَّعْدِ، وَهِيَ النَّفْخَةُ الْأَوْلَى الَّتِي يَمُوتُ بِهَا جَمِيعُ الْخَلَائِقِ، وَالرَّادِفَةُ: النَّفْخَةُ الثَّانِيَةُ الَّتِي تَكُونُ عِنْدَ الْبَعْثِ، وَسُمِّيَتْ رَادِفَةً لِأَنَّهَا رَدَفَتِ النَّفْخَةَ الْأُولَى، كَذَا قَالَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الرَّاجِفَةُ: الْأَرْضُ، وَالرَّادِفَةُ: السَّاعَةُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الرَّادِفَةُ: الزَّلْزَلَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ الصَّيْحَةُ، وَقِيلَ: الرَّاجِفَةُ: اضْطِرَابُ الْأَرْضِ، وَالرَّادِفَةُ: الزَّلْزَلَةُ، وَأَصْلُ الرَّجْفَةِ: الْحَرَكَةُ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ التَّحَرُّكُ هُنَا فَقَطْ بَلِ الرَّاجِفَةُ هُنَا مَأْخُوذَةٌ مِنْ قَوْلِهِمْ: رَجَفَ الرَّعْدُ يَرْجُفُ رَجْفًا وَرَجِيفًا إِذَا ظَهَرَ صَوْتُهُ، وَمِنْهُ سُمِّيَتِ الْأَرَاجِيفُ لِاضْطِرَابِ الْأَصْوَاتِ بِهَا وظهور الأصوات فيها، ومنه قول الشاعر «٤» :


(١) . النازعات: ١١.
(٢) . النازعات: ٢٦.
(٣) . طه: ٩.
(٤) . هو منازل بن ربيعة المنقري. [.....]

<<  <  ج: ص:  >  >>