للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى أَيْ: وَمِنْ أَيْنَ لَهُ التَّذَكُّرُ وَالِاتِّعَاظُ، وَقِيلَ: هُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ: وَمِنْ أَيْنَ لَهُ مَنْفَعَةُ الذِّكْرَى. قَالَ الزَّجَّاجُ: يُظْهِرُ التَّوْبَةَ وَمِنْ أَيْنَ له التوبة؟ يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، كَأَنَّهُ قِيلَ: مَاذَا يَقُولُ الْإِنْسَانُ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ بَدَلَ اشْتِمَالٍ مِنْ قَوْلِهِ: يَتَذَكَّرُ، وَالْمَعْنَى: يَتَمَنَّى أَنَّهُ قَدَّمَ الْخَيْرَ وَالْعَمَلَ الصَّالِحَ، وَاللَّامُ فِي لِحَيَاتِي بِمَعْنَى لِأَجْلِ حَيَاتِي، وَالْمُرَادُ حَيَاةُ الْآخِرَةِ، فَإِنَّهَا الْحَيَاةُ بِالْحَقِيقَةِ لِأَنَّهَا دَائِمَةٌ غَيْرُ مُنْقَطِعَةٍ. وَقِيلَ: إِنَّ اللَّامَ بِمَعْنَى فِي، وَالْمُرَادُ حَيَاةُ الدُّنْيَا، أَيْ: يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ فِي وَقْتِ حَيَاتِي فِي الدُّنْيَا أَنْتَفِعُ بِهَا هَذَا الْيَوْمَ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى.

قَالَ الْحَسَنُ: عَلِمَ وَاللَّهِ أَنَّهُ صَادَفَ حَيَاةً طَوِيلَةً لَا مَوْتَ فِيهَا فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ أَيْ: يَوْمَ يَكُونُ زَمَانُ مَا ذُكِرَ مِنَ الْأَحْوَالِ لَا يُعَذِّبُ كَعَذَابِ اللَّهِ أَحَدٌ وَلا يُوثِقُ كَ وَثاقَهُ أَحَدٌ أَوْ لَا يَتَوَلَّى عَذَابَ اللَّهِ وَوَثَاقَهُ أَحَدٌ سِوَاهُ إِذِ الْأَمْرُ كُلُّهُ لَهُ، وَالضَّمِيرَانِ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فِي عَذَابِهِ وَوَثَاقِهِ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَهَذَا عَلَى قِرَاءَةِ الجمهور يعذب ويوثق مَبْنِيَّيْنِ لِلْفَاعِلِ. وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ فِيهِمَا، فَيَكُونُ الضَّمِيرَانِ رَاجِعَيْنِ إِلَى الْإِنْسَانِ، أَيْ: لَا يُعَذَّبُ كَعَذَابِ ذَلِكَ الْإِنْسَانِ أَحَدٌ وَلَا يُوثَقُ كَوَثَاقِهِ أَحَدٌ، وَالْمُرَادُ بِالْإِنْسَانِ الْكَافِرُ، أَيْ: لَا يُعَذَّبُ مَنْ لَيْسَ بِكَافِرٍ كَعَذَابِ الْكَافِرِ، وَقِيلَ: إِبْلِيسُ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ.

قَالَ الْفَرَّاءُ: الْمَعْنَى أَنَّهُ لَا يُعَذِّبُ كَعَذَابِ هَذَا الْكَافِرِ الْمُعَيَّنِ أَحَدٌ، وَلَا يُوثِقُ بِالسَّلَاسِلِ وَالْأَغْلَالِ كَوَثَاقِهِ أَحَدٌ لِتَنَاهِيهِ فِي الْكُفْرِ وَالْعِنَادِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى: أَنَّهُ لَا يُعَذَّبُ مَكَانَهُ أحد ولا يوثق مكانه أحد، ولا تُؤْخَذُ مِنْهُ فِدْيَةٌ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى «١» وَالْعَذَابُ بِمَعْنَى التَّعْذِيبِ، وَالْوَثَاقُ بِمَعْنَى التَّوْثِيقِ، وَاخْتَارَ أَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو حَاتِمٍ قِرَاءَةَ الْكِسَائِيِّ، قَالَ: وَتَكُونُ الْهَاءُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ ضَمِيرَ الْكَافِرِ لِأَنَّهُ مَعْرُوفٌ أَنَّهُ لَا يُعَذِّبُ أَحَدٌ كَعَذَابِ اللَّهِ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ لِلْكَافِرِ عَلَى قِرَاءَةِ الْجَمَاعَةِ، أَيْ: لَا يُعَذِّبُ أَحَدٌ أَحَدًا مِثْلَ تَعْذِيبِ هَذَا الْكَافِرِ.

وَلَمَّا فَرَغَ سُبْحَانَهُ مِنْ حِكَايَةِ أَحْوَالِ الْأَشْقِيَاءِ ذكر بعض أحوال السعداء فقال يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ الْمُطْمَئِنَّةُ: هِيَ السَّاكِنَةُ الْمُوقِنَةُ بِالْإِيمَانِ وَتَوْحِيدِ اللَّهِ، الْوَاصِلَةُ إِلَى ثَلْجِ الْيَقِينِ بِحَيْثُ لَا يُخَالِطُهَا شَكٌّ وَلَا يَعْتَرِيهَا رَيْبٌ. قَالَ الْحَسَنُ: هِيَ الْمُؤْمِنَةُ الْمُوقِنَةُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الرَّاضِيَةُ بِقَضَاءِ اللَّهِ الَّتِي عَلِمَتْ أَنَّ مَا أَخْطَأَهَا لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهَا، وَأَنَّ مَا أَصَابَهَا لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهَا. وَقَالَ مُقَاتِلٌ، هِيَ الْآمِنَةُ الْمُطَمْئِنَّةُ. وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: الْمُطَمْئِنَّةُ بِذِكْرِ اللَّهِ، وَقِيلَ: الْمُخْلِصَةُ. قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْمُطَمْئِنَّةُ لِأَنَّهَا بُشِّرَتْ بِالْجَنَّةِ عِنْدَ الْمَوْتِ وَعِنْدَ الْبَعْثِ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ أَيِ: ارْجِعِي إِلَى اللَّهِ راضِيَةً بِالثَّوَابِ الَّذِي أَعْطَاكِ مَرْضِيَّةً عِنْدَهُ، وَقِيلَ: ارْجِعِي إِلَى مَوْعِدِهِ، وَقِيلَ: إِلَى أَمْرِهِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَعَطَاءٌ: مَعْنَى ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ إِلَى جَسَدِكِ الَّذِي كُنْتِ فِيهِ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا قِرَاءَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ «فَادْخُلِي فِي عَبْدِي» بِالْإِفْرَادِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى فَادْخُلِي فِي عِبادِي أَيْ: فِي زُمْرَةِ عِبَادِي الصَّالِحِينَ، وَكُونِي مِنْ جُمْلَتِهِمْ، وانتظمي في سلكهم


(١) . الأنعام: ١٦٤. [.....]

<<  <  ج: ص:  >  >>