للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أَيْ حِسَابُهُ سُبْحَانَهُ سَرِيعٌ إِتْيَانُهُ وَكُلُّ آتٍ قَرِيبٌ. قَوْلُهُ: الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُؤَكِّدَةٌ لِلْجُمْلَةِ الْأُولَى، وَهِيَ قَوْلُهُ: أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ الطَّيِّبَاتِ. قَوْلُهُ: وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ الطَّعَامُ: اسْمٌ لِمَا يُؤْكَلُ، وَمِنْهُ الذَّبَائِحُ، وَذَهَبَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى تَخْصِيصِهِ هُنَا بِالذَّبَائِحِ.

وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ طَعَامِ أَهْلِ الْكُتُبِ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ اللَّحْمِ وَغَيْرِهِ حَلَالٌ لِلْمُسْلِمِينَ وَإِنْ كَانُوا لَا يَذْكُرُونَ عَلَى ذَبَائِحِهِمُ اسْمَ اللَّهِ، وَتَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ مُخَصِّصَةً لِعُمُومِ قَوْلِهِ: وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ. وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّ ذَبَائِحَ أَهْلِ الْكِتَابِ حَلَالٌ، وَإِنْ ذَكَرَ الْيَهُودِيُّ عَلَى ذَبِيحَتِهِ اسْمَ عُزَيْرٍ، وَذَكَرَ النَّصْرَانِيُّ عَلَى ذَبِيحَتِهِ اسْمَ الْمَسِيحِ. وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَبُو الدَّرْدَاءِ وَعِبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَالزُّهْرِيُّ وَرَبِيعَةُ وَالشَّعْبِيُّ وَمَكْحُولٌ. وَقَالَ عَلِيٌّ وَعَائِشَةُ وَابْنُ عُمَرَ: إِذَا سَمِعْتَ الْكِتَابِيَّ يُسَمِّي غَيْرَ اللَّهِ فَلَا تَأْكُلْ، وَهُوَ قَوْلُ طَاوُسٍ وَالْحَسَنُ وَتَمَسَّكُوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ «١» وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْلُهُ:

وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَقَالَ مَالِكٌ: إِنَّهُ يُكْرَهُ وَلَا يَحْرُمُ. فَهَذَا الْخِلَافُ إِذَا عَلِمْنَا أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ ذَكَرُوا عَلَى ذَبَائِحِهِمُ اسْمَ غَيْرِ اللَّهِ، وَأَمَّا مَعَ عَدَمِ الْعِلْمِ فَقَدْ حَكَى الْكِيَا الطَّبَرِيُّ «٢» وَابْنُ كَثِيرٍ الْإِجْمَاعَ عَلَى حِلِّهَا لِهَذِهِ الْآيَةِ، وَلِمَا وَرَدَ فِي السُّنَّةِ مِنْ أَكْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ مِنَ الشَّاةِ الْمَصْلِيَّةِ الَّتِي أَهْدَتْهَا إِلَيْهِ الْيَهُودِيَّةُ، وَهُوَ فِي الصَّحِيحِ، وَكَذَلِكَ الْجِرَابُ الشَّحْمُ الَّذِي أَخَذَهُ بَعْضُ الصَّحَابَةِ مِنْ خَيْبَرَ وَعَلِمَ بذلك النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي الصَّحِيحِ أَيْضًا وَغَيْرُ ذَلِكَ.

وَالْمُرَادُ بِأَهْلِ الْكِتَابِ هُنَا الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى. وَأَمَّا الْمَجُوسُ، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهَا لَا تُؤْكَلْ ذَبَائِحُهُمْ وَلَا تُنْكَحُ نِسَاؤُهُمْ لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا بِأَهْلِ كِتَابٍ عَلَى الْمَشْهُورِ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ أَبُو ثَوْرٍ، وَأَنْكَرَ عَلَيْهِ الْفُقَهَاءُ ذَلِكَ حَتَّى قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: أَبُو ثَوْرٍ كَاسْمِهِ، يَعْنِي فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَكَأَنَّهُ تَمَسَّكَ بِمَا يُرْوَى عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرْسَلًا أَنَّهُ قَالَ فِي الْمَجُوسِ: «سَنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ» وَلَمْ يَثْبُتْ بِهَذَا اللَّفْظِ، وَعَلَى فَرْضِ أَنَّ لَهُ أَصْلًا فَفِيهِ زِيَادَةٌ تَدْفَعُ مَا قَالَهُ، وَهِيَ قَوْلُهُ: «غَيْرَ آكِلِي ذَبَائِحِهِمْ وَلَا نَاكِحِي نِسَائِهِمْ» . وَقَدْ رَوَاهُ بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ جَمَاعَةٌ مِمَّنْ لَا خِبْرَةَ لَهُ بِفَنِّ الْحَدِيثِ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ وَالْفُقَهَاءِ، وَلَمْ يَثْبُتِ الْأَصْلُ وَلَا الزِّيَادَةُ، بَلِ الَّذِي ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ أَخَذَ الْجِزْيَةَ مِنْ مَجُوسِ هَجَرَ، وَأَمَّا بَنُو تَغْلَبَ فَكَانَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ يَنْهَى عَنْ ذَبَائِحِهِمْ لِأَنَّهُمْ عَرَبٌ، وَكَانَ يَقُولُ: إِنَّهُمْ لَمْ يَتَمَسَّكُوا بِشَيْءٍ مِنَ النَّصْرَانِيَّةِ إِلَّا بِشُرْبِ الْخَمْرِ، وَهَكَذَا سَائِرُ الْعَرَبِ الْمُتَنَصِّرَةِ كَتَنُوخَ وَجُذَامٍ وَلَخْمٍ وَعَامِلَةَ وَمَنْ أَشْبَهَهُمْ. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وَهُوَ قَوْلُ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ.

وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُمَا كَانَا لَا يَرَيَانِ بَأْسًا بِذَبِيحَةِ نَصَارَى بَنِي تَغْلَبَ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَقَالَ جُمْهُورُ الْأُمَّةِ إِنَّ ذَبِيحَةَ كُلِّ نَصْرَانِيٍّ حَلَالٌ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ بَنِي تَغْلَبَ أَوْ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَكَذَلِكَ الْيَهُودُ. قَالَ: وَلَا خِلَافَ بَيْنِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ مَا لَا يَحْتَاجُ إِلَى ذَكَاةٍ كَالطَّعَامِ يَجُوزُ أَكْلُهُ. قَوْلُهُ: وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ أَيْ وَطَعَامُ الْمُسْلِمِينَ حَلَالٌ لِأَهْلِ الْكِتَابِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يُطْعِمُوا أَهْلَ الْكِتَابِ مِنْ ذَبَائِحِهِمْ، وَهَذَا مِنْ بَابِ الْمُكَافَأَةِ وَالْمُجَازَاةِ وَإِخْبَارِ الْمُسْلِمِينَ بِأَنَّ مَا يَأْخُذُونَهُ مِنْهُمْ من أعراض الطعام حلال


(١) . الأنعام: ١٢١.
(٢) . هو علي بن محمد بن علي، أبو الحسن الطبري، المعروف بالكيا الهرّاسي، فقيه، مفسّر (ت ٥٠٤ هـ) .

<<  <  ج: ص:  >  >>