للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَحُكِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُمْ يُخْرَجُونَ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ وَيُطْلَبُونَ لِتُقَامَ عَلَيْهِمُ الْحُدُودُ، وَبِهِ قَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ.

وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ يُنْفَى مِنَ الْبَلَدِ الَّذِي أَحْدَثَ فِيهِ إِلَى غَيْرِهِ وَيُحْبَسُ فِيهِ كَالزَّانِي، وَرَجَّحَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَالْقُرْطُبِيُّ.

وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ: نَفْيُهُمْ سِجْنُهُمْ، فَيُنْفَى مِنْ سِعَةِ الدُّنْيَا إِلَى ضِيقِهَا. وَالظَّاهِرُ مِنَ الْآيَةِ أَنَّهُ يُطْرَدُ مِنَ الْأَرْضِ الَّتِي وَقَعَ مِنْهُ فِيهَا مَا وَقَعَ مِنْ غَيْرِ سِجْنٍ وَلَا غَيْرِهِ. وَالنَّفْيُ قَدْ يَقَعُ بِمَعْنَى الْإِهْلَاكِ وَلَيْسَ هُوَ مُرَادًا هُنَا. قَوْلُهُ:

ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا الْإِشَارَةُ إِلَى مَا سَبَقَ ذِكْرُهُ مِنَ الْأَحْكَامِ، وَالْخِزْيُ: الذُّلُّ وَالْفَضِيحَةُ. قَوْلُهُ:

إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ اسْتَثْنَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ التَّائِبِينَ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ مِنْ عُمُومِ الْمُعَاقِبِينَ بِالْعُقُوبَاتِ السَّابِقَةِ، وَالظَّاهِرُ عَدَمُ الْفَرْقِ بَيْنَ الدِّمَاءِ وَالْأَمْوَالِ وَبَيْنَ غَيْرِهَا مِنَ الذُّنُوبِ الْمُوجِبَةِ لِلْعُقُوبَاتِ الْمُعَيَّنَةِ الْمَحْدُودَةِ، فَلَا يُطَالَبُ التَّائِبُ قَبْلَ الْقُدْرَةِ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَعَلَيْهِ عَمَلُ الصَّحَابَةِ. وَذَهَبَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ الْقِصَاصُ وَسَائِرُ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ بِالتَّوْبَةِ قَبْلَ الْقُدْرَةِ، وَالْحَقُّ الْأَوَّلُ. وَأَمَّا التَّوْبَةُ بَعْدَ الْقُدْرَةِ فَلَا تَسْقُطُ بِهَا الْعُقُوبَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي الْآيَةِ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ ذِكْرُ قَيْدِ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَأَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ السُّلْطَانَ وَلِيُّ مَنْ حَارَبَ فَإِنْ قَتَلَ مُحَارِبٌ أَخَا امْرِئٍ وَأَتَاهُ فِي حَالِ الْمُحَارَبَةِ، فَلَيْسَ إِلَى طَالِبِ الدَّمِ مِنْ أَمْرِ الْمُحَارَبَةِ شَيْءٌ، وَلَا يَجُوزُ عَفْوُ وَلِيِّ الدَّمِ.

وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الضَّحَّاكِ فِي قَوْلِهِ: مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ يَقُولُ: مِنْ أَجْلِ ابْنِ آدَمَ الَّذِي قَتَلَ أَخَاهُ ظُلْمًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ يَعْنِي قَوْلَهُ: فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً أَهِيَ لَنَا كَمَا كَانَتْ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ؟ فَقَالَ: إِي وَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ قَالَ: نَزَلَتْ فِي الْمُشْرِكِينَ، فَمَنْ تَابَ مِنْهُمْ قَبْلَ أَنْ يُقْدَرَ عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ سَبِيلٌ، وَلَيْسَتْ تُحْرِزُ هَذِهِ الْآيَةُ الرَّجُلَ الْمُسْلِمَ مِنَ الْحَدِّ إِنْ قَتَلَ أَوْ أَفْسَدَ فِي الْأَرْضِ أَوْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ عَنْهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ: كَانَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَهْدٌ وَمِيثَاقٌ، فَنَقَضُوا الْعَهْدَ وَأَفْسَدُوا فِي الْأَرْضِ، فَخَيَّرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ فِيهِمْ: إِنْ شَاءَ قَتَلَ، وَإِنْ شَاءَ صَلَبَ، وَإِنْ شَاءَ أَنْ يَقْطَعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ مِنْ خِلَافٍ، وَأَمَّا النَّفْيُ فَهُوَ الضَّرْبُ فِي الْأَرْضِ، فَإِنْ جَاءَ تَائِبًا فَدَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ قُبِلَ مِنْهُ، وَلَمْ يُؤْخَذْ بِمَا سَلَفَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الْحَرُورِيَّةِ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَنَسٍ أَنَّ نَفَرًا مِنْ عُكْلٍ قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَسْلَمُوا وَاجْتَوَوُا «١» الْمَدِينَةَ، فَأَمَرَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ أَنْ يَأْتُوا إِبِلَ الصَّدَقَةِ، فَيَشْرَبُوا مِنْ أَبْوَالِهَا وَأَلْبَانِهَا، فَقَتَلُوا رَاعِيَهَا وَاسْتَاقُوهَا، فَبَعَثَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ فِي طَلَبِهِمْ قَافَةً «٢» ، فَأُتِيَ بِهِمْ فَقَطَّعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ، وَسَمَلَ أَعْيُنَهُمْ، وَلِمْ يَحْسِمْهُمْ، وَتَرَكَهُمْ حَتَّى مَاتُوا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ الْآيَةَ. وَفِي مُسْلِمٍ عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّمَا سَمَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم أعين أولئك لأنهم سملوا أعين


(١) . اجتووا: أي أصابهم الجوى وهو المرض وداء الجوف إذا تطاول.
(٢) . القافة: جمع قائف، الذي يتتبع الأثر.

<<  <  ج: ص:  >  >>