للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَحُرُجَاتٍ، وَمِنْهُ فُلَانٌ يَتَحَرَّجُ: أَيْ يُضَيِّقُ عَلَى نَفْسِهِ. وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: مَكَانٌ حَرِجٌ وَحَرَجٌ: أَيْ ضَيِّقٌ كَثِيرُ الشَّجَرِ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ الرَّاعِيَةُ، وَالْحَرِجُ: الْإِثْمُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْحَرَجُ: أَضْيَقُ الضِّيقِ. وَقَالَ النَّحَّاسُ: حَرِجٌ اسْمُ الْفَاعِلِ وَحَرَجٌ مَصْدَرٌ وُصِفَ بِهِ كَمَا يُقَالُ: رَجُلٌ عَدْلٌ. قَوْلُهُ: كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ. قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ بِالتَّخْفِيفِ مِنَ الصُّعُودِ، شَبَّهَ الْكَافِرَ فِي ثِقَلِ الْإِيمَانِ عَلَيْهِ بِمَنْ يَتَكَلَّفُ مَا لَا يُطِيقُهُ كَصُعُودِ السَّمَاءِ. وَقَرَأَ النَّخَعِيُّ «يَصَّاعَدُ» وَأَصْلُهُ يَتَصَاعَدُ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ يَصَّعَّدُ بِالتَّشْدِيدِ وَأَصْلُهُ يَتَصَعَّدُ، وَمَعْنَاهُ: يَتَكَلَّفُ مَا لَا يُطِيقُ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ كَمَا يَتَكَلَّفُ مَنْ يُرِيدُ الصُّعُودَ إِلَى السَّمَاءِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى عَلَى جَمِيعِ الْقِرَاءَاتِ: كَادَ قَلْبُهُ يصعد إلى السماء نبوّا عن الإسلام، وما: فِي كَأَنَّما هِيَ الْمُهَيِّئَةُ لِدُخُولِ كَأَنَّ عَلَى الْجُمَلِ الْفِعْلِيَّةِ.

قَوْلُهُ: كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ: أَيْ مِثْلُ ذَلِكَ الْجَعْلِ الَّذِي هُوَ جَعْلُ الصَّدْرِ ضَيِّقًا حَرَجًا يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ. وَالرِّجْسُ فِي اللُّغَةِ: النَّتْنُ، وَقِيلَ: هُوَ الْعَذَابُ، وَقِيلَ: هُوَ الشَّيْطَانُ يُسَلِّطُهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَقِيلَ: هُوَ مَا لَا خَيْرَ فِيهِ وَالْمَعْنَى الْأَوَّلُ هُوَ الْمَشْهُورُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ، وَهُوَ مُسْتَعَارٌ لِمَا يَحِلُّ بِهِمْ مِنَ الْعُقُوبَةِ وَهُوَ يَصْدُقُ عَلَى جَمِيعِ الْمَعَانِي الْمَذْكُورَةِ. وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: وَهذا صِراطُ رَبِّكَ إِلَى مَا عليه النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، أَيْ: هَذَا طَرِيقُ دِينِ رَبِّكَ لَا اعْوِجَاجَ فِيهِ وَقِيلَ: الْإِشَارَةُ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى التَّوْفِيقِ وَالْخِذْلَانِ، أَيْ: هَذَا هُوَ عَادَةُ اللَّهِ فِي عِبَادِهِ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَيُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ، وَانْتِصَابُ مُسْتَقِيماً عَلَى الْحَالِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً «١» ، وَهذا بَعْلِي شَيْخاً «٢» ، قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ أَيْ بَيَّنَّاهَا وَأَوْضَحْنَاهَا لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ مَا فِيهَا وَيَتَفَهَّمُونَ مَعَانِيهَا لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ أَيْ: لِهَؤُلَاءِ الْمُتَذَكِّرِينَ الْجَنَّةَ لِأَنَّهَا دَارُ السَّلَامَةِ مِنْ كُلِّ مَكْرُوهٍ، أَوْ دَارُ الرَّبِّ السَّلَامُ مُدَّخَرَةٌ لَهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُوصِلُهُمْ إِلَيْهَا وَهُوَ وَلِيُّهُمْ أَيْ نَاصِرُهُمْ، وَالْبَاءُ فِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ لِلسَّبَبِيَّةِ: أَيْ بِسَبَبِ أعمالهم. قوله: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً الظَّرْفُ مَنْصُوبٌ بِمُضْمَرٍ يُقَدَّرُ مُتَقَدِّمًا: أَيْ واذكر يوم نحشرهم أو وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ نقول: يا مَعْشَرَ الْجِنِّ، وَالْمُرَادُ حَشْرُ جَمِيعِ الْخَلْقِ فِي الْقِيَامَةِ، وَالْمَعْشَرُ:

الْجَمَاعَةُ، أَيْ: يَوْمُ الْحَشْرِ نَقُولُ: يَا جَمَاعَةَ الْجِنِّ! قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ أَيْ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ بِهِمْ كَقَوْلِهِ: رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ «٣» وَقِيلَ: اسْتَكْثَرْتُمْ مِنْ إِغْوَائِهِمْ وَإِضْلَالِهِمْ حَتَّى صَارُوا فِي حُكْمِ الْأَتْبَاعِ لَكُمْ فَحَشَرْنَاهُمْ مَعَكُمْ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُمُ: اسْتَكْثَرَ الْأَمِيرُ مِنَ الْجُنُودِ، وَالْمُرَادُ: التَّقْرِيعُ وَالتَّوْبِيخُ، وَعَلَى الْأَوَّلِ فَالْمُرَادُ بِالِاسْتِمْتَاعِ التَّلَذُّذُ مِنَ الْجِنِّ بِطَاعَةِ الْإِنْسِ لَهُمْ وَدُخُولِهِمْ فِيمَا يُرِيدُونَ مِنْهُمْ وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ أَمَّا اسْتِمْتَاعُ الْجِنِّ بِالْإِنْسِ فَهُوَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ تَلَذُّذِهِمْ بِاتِّبَاعِهِمْ لَهُمْ، وَأَمَّا اسْتِمْتَاعُ الْإِنْسِ بِالْجِنِّ فَحَيْثُ قَبِلُوا مِنْهُمْ تَحْسِينَ الْمَعَاصِي فَوَقَعُوا فِيهَا وَتَلَذَّذُوا بِهَا، فَذَلِكَ هُوَ اسْتِمْتَاعُهُمْ بِالْجِنِّ وَقِيلَ:

اسْتِمْتَاعُ الْإِنْسِ بِالْجِنِّ أَنَّهُ كَانَ إِذَا مَرَّ الرَّجُلُ بِوَادٍ فِي سَفَرِهِ وَخَافَ عَلَى نَفْسِهِ قَالَ: أَعُوذُ بِرَبِّ هَذَا الْوَادِي مِنْ جَمِيعِ مَا أَحْذَرُ، يَعْنِي رَبَّهُ مِنَ الْجِنِّ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً «٤» وَقِيلَ: اسْتِمْتَاعُ الْجِنِّ بِالْإِنْسِ أَنَّهُمْ كَانُوا يُصَدِّقُونَهُمْ فِيمَا يَقُولُونَ مِنَ الْأَخْبَارِ الْغَيْبِيَّةِ الْبَاطِلَةِ، وَاسْتِمْتَاعُ الْإِنْسِ بِالْجِنِّ أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَلَذَّذُونَ بِمَا يُلْقُونَهُ إِلَيْهِمْ مِنَ الْأَكَاذِيبِ وَيَنَالُونَ بِذَلِكَ شَيْئًا مِنْ حظوظ


(١) . البقرة: ٩١.
(٢) . هود: ٧٢.
(٣) . الأنعام: ١٢٨.
(٤) . الجن: ٦.

<<  <  ج: ص:  >  >>