للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الدُّنْيَا كَالْكُهَّانِ وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا أَيْ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْتِرَافًا مِنْهُمْ بِالْوُصُولِ إِلَى مَا وَعَدَهُمُ اللَّهُ بِهِ مِمَّا كَانُوا يُكَذِّبُونَ بِهِ. وَلَمَّا قَالُوا هَذِهِ الْمَقَالَةَ أَجَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فَ قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ أَيْ: مَوْضِعُ مَقَامِكُمْ.

وَالْمَثْوَى: الْمَقَامُ، وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ. قَوْلُهُ: خالِدِينَ فِيها إِلَّا مَا شاءَ اللَّهُ الْمَعْنَى الَّذِي تَقْتَضِيهِ لُغَةُ الْعَرَبِ فِي هَذَا التَّرْكِيبِ: أَنَّهُمْ يَخْلُدُونَ فِي النَّارِ فِي كُلِّ الْأَوْقَاتِ إِلَّا فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَشَاءُ اللَّهُ عَدَمَ بَقَائِهِمْ فِيهَا. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: إِنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يَرْجِعُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَيْ: خَالِدِينَ فِي النَّارِ إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ مِنْ مِقْدَارِ حَشْرِهِمْ مِنْ قُبُورِهِمْ وَمِقْدَارِ مُدَّتِهِمْ فِي الْحِسَابِ، وَهُوَ تَعَسُّفٌ، لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ هُوَ مِنَ الْخُلُودِ الدَّائِمِ وَلَا يَصْدُقُ عَلَى مَنْ لَمْ يَدْخُلِ النَّارَ وَقِيلَ: الِاسْتِثْنَاءُ رَاجِعٌ إِلَى النَّارِ أَيْ: إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ مِنْ تَعْذِيبِهِمْ بِغَيْرِهَا فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ كَالزَّمْهَرِيرِ وَقِيلَ: الِاسْتِثْنَاءُ لأهل الإيمان، وما بِمَعْنَى مِنْ أَيْ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ إِيمَانَهُ فَإِنَّهُ لَا يَدْخُلُ النَّارَ وَقِيلَ الْمَعْنَى: إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ مِنْ كَوْنِهِمْ فِي الدُّنْيَا بِغَيْرِ عَذَابٍ. وَكُلُّ هَذِهِ التَّأْوِيلَاتِ مُتَكَلَّفَةٌ، وَالَّذِي أَلْجَأَ إِلَيْهَا مَا وَرَدَ فِي الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ وَالْأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ مِنْ خُلُودِ الْكُفَّارِ فِي النَّارِ أَبَدًا، وَلَكِنْ لَا تَعَارُضَ بَيْنَ عَامٍّ وَخَاصٍّ لَا سِيَّمَا بَعْدَ وُرُودِهِ فِي الْقُرْآنِ مُكَرَّرًا كَمَا سَيَأْتِي فِي سُورَةِ هُودٍ خالِدِينَ فِيها مَا دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ «١» وَلَعَلَّهُ يَأْتِي هُنَالِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ زِيَادَةُ تَحْقِيقٍ.

وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ الْمُبَارَكِ فِي الزُّهْدِ وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ وَالْفِرْيَابِيُّ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الْمَدَائِنِيِّ رَجُلٌ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ، وَلَيْسَ هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ قَالَ: «سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ قَالُوا: كَيْفَ يَشْرَحُ صَدْرَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟! قَالَ: «نُورٌ يُقْذَفُ فِيهِ فَيَنْشَرِحُ صَدْرُهُ لَهُ وَيَنْفَسِحُ لَهُ» ، قَالُوا: فَهَلْ لِذَلِكَ مِنْ أَمَارَةٍ يُعْرَفُ بِهَا؟ قَالَ: «الْإِنَابَةُ إِلَى دَارِ الْخُلُودِ، وَالتَّجَافِي عَنْ دَارِ الْغُرُورِ، وَالِاسْتِعْدَادُ لِلْمَوْتِ قَبْلَ لِقَاءِ الْمَوْتِ» . وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ فُضَيْلٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا عَنِ الْحَسَنِ نَحْوَهُ أَيْضًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَابْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو الشَّيْخِ وَالْحَاكِمُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ مِنْ طُرُقٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: فَذَكَرَ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ مَرْفُوعًا مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى. وَأَخْرَجَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، وَابْنُ النَّجَّارِ فِي تَارِيخِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُسْتَوْرِدِ، وَكَانَ مِنْ وَلَدِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: تَلَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْآيَةَ فَذَكَرَ نَحْوَهُ. وَهَذِهِ الطُّرُقُ يُقَوِّي بَعْضُهَا بَعْضًا، وَالْمُتَّصِلُ يُقَوِّي الْمُرْسَلَ، فَالْمَصِيرُ إِلَى هَذَا التَّفْسِيرِ النَّبَوِيِّ مُتَعَيَّنٌ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: كَمَا لَا يَسْتَطِيعُ ابْنُ آدَمَ أَنْ يَبْلُغَ السَّمَاءَ، كَذَلِكَ لَا يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَدْخُلَ الْإِيمَانُ وَالتَّوْحِيدُ قَلْبَهُ حَتَّى يُدْخِلَهُ اللَّهُ فِي قَلْبِهِ. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ عَنْهُ فِي الْآيَةِ يَقُولُ: مَنْ أَرَادَ أَنْ يُضِلَّهُ يُضَيِّقْ عَلَيْهِ حَتَّى يَجْعَلَ الْإِسْلَامَ عَلَيْهِ ضَيِّقًا، وَالْإِسْلَامُ وَاسِعٌ، وَذَلِكَ حين يقول: ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ «٢» يَقُولُ:

مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الْإِسْلَامِ مِنْ ضِيقٍ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: دارُ السَّلامِ قَالَ: الْجَنَّةُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: السَّلَامُ: هُوَ اللَّهُ. وَأَخْرَجَ أبو الشيخ عن السدّي


(١) . هود: ١٠٧.
(٢) . الحج: ٧٨.

<<  <  ج: ص:  >  >>