للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

عَنِ الْعَوْدِ إِلَى مِثْلِ هَذَا السُّؤَالِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَأَجْمَعْتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ هَذِهِ التَّوْبَةَ مَا كَانَتْ عَنْ مَعْصِيَةٍ فَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ مَعْصُومُونَ وَقِيلَ: هِيَ تَوْبَةٌ مِنْ قَتْلِهِ لِلْقِبْطِيِّ، ذَكَرَهُ الْقُشَيْرِيُّ، وَلَا وَجْهَ لَهُ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ بِكَ قَبْلَ قَوْمِي الْمَوْجُودِينَ فِي هَذَا الْعَصْرِ الْمُعْتَرِفِينَ بِعَظَمَتِكَ وَجَلَالِكَ، وَجُمْلَةُ قالَ يَا مُوسى مُسْتَأْنَفَةٌ كَالَّتِي قَبْلَهَا، مُتَضَمِّنَةٌ لِإِكْرَامِ مُوسَى وَاخْتِصَاصِهِ بِمَا اخْتَصَّهُ اللَّهُ بِهِ. وَالِاصْطِفَاءُ: الِاجْتِبَاءُ وَالِاخْتِيَارُ، أَيِ: اخْتَرْتُكَ عَلَى النَّاسِ الْمُعَاصِرِينَ لَكَ بِرِسَالَتِي كَذَا قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ بِالْإِفْرَادِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْجَمْعِ. وَالرِّسَالَةُ مَصْدَرٌ، وَالْأَصْلُ فِيهِ الْإِفْرَادُ، وَمَنْ جَمَعَ فَكَأَنَّهُ نَظَرَ إِلَى أَنَّ الرِّسَالَةَ هِيَ عَلَى ضُرُوبٍ، فَجُمِعَ لِاخْتِلَافِ الْأَنْوَاعِ، وَالْمُرَادُ بِالْكَلَامِ هُنَا: التَّكْلِيمُ. امْتَنَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَيْهِ بِهَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ الْعَظِيمَيْنِ مِنْ أَنْوَاعِ الْإِكْرَامِ، وَهُمَا: الرِّسَالَةُ وَالتَّكْلِيمُ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ، ثُمَّ أَمَرَهُ بِأَنْ يَأْخُذَ مَا آتَاهُ، أَيْ: أَعْطَاهُ مِنْ هَذَا الشَّرَفِ الْكَرِيمِ، وَأَمَرَهُ بِأَنْ يَكُونَ مِنَ الشَّاكِرِينَ عَلَى هَذَا الْعَطَاءِ الْعَظِيمِ وَالْإِكْرَامِ الْجَلِيلِ. قَوْلُهُ وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ: أَيْ مِنْ كُلِّ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، وَهَذِهِ الْأَلْوَاحُ: هِيَ التَّوْرَاةُ، قِيلَ: كَانَتْ مِنْ زُمُرُّدَةٍ خَضْرَاءَ وَقِيلَ: مِنْ يَاقُوتَةٍ حَمْرَاءَ، وَقِيلَ:

مِنْ زَبَرْجَدٍ، وَقِيلَ: مِنْ صَخْرَةٍ صَمَّاءَ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي عَدَدِ الْأَلْوَاحِ وَفِي مِقْدَارِ طُولِهَا وَعَرْضِهَا، وَالْأَلْوَاحُ:

جَمْعُ لَوْحٍ، وَسُمِّيَ لَوْحًا لِكَوْنِهِ تَلُوحُ فِيهِ الْمَعَانِي، وَأَسْنَدَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْكِتَابَةَ إِلَى نَفْسِهِ تَشْرِيفًا لِلْمَكْتُوبِ فِي الْأَلْوَاحِ، وَهِيَ مَكْتُوبَةٌ بِأَمْرِهِ سُبْحَانَهُ وَقِيلَ: هِيَ كتابة خلقها الله في الألواح، ومِنْ كُلِّ شَيْءٍ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى أَنَّهُ مفعول كَتَبْنا ومَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا بَدَلٌ مِنْ مَحَلِّ كُلِّ شَيْءٍ، أَيْ: مَوْعِظَةً لِمَنْ يَتَّعِظُ بِهَا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَغَيْرِهِمْ وَتَفْصِيلًا لِلْأَحْكَامِ الْمُحْتَاجَةِ إِلَى التَّفْصِيلِ فَخُذْها بِقُوَّةٍ أَيْ: خُذِ الْأَلْوَاحَ بِقُوَّةٍ، أَيْ: بِجِدٍّ وَنَشَاطٍ، وَقِيلَ: الضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى الرِّسَالَاتِ، أَوْ إِلَى كُلِّ شَيْءٍ، أَوْ إِلَى التَّوْرَاةِ، قِيلَ: وَهَذَا الْأَمْرُ عَلَى إِضْمَارِ الْقَوْلِ، أَيْ: فَقُلْنَا لَهُ: خُذْهَا، وَقِيلَ: إِنَّ فَخُذْها بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها أَيْ: بِأَحْسَنِ مَا فِيهَا بِمَا أَجْرُهُ أَكْثَرُ مِنْ غَيْرِهِ، وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى اتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ «١» ، وقوله فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ، وَمِنَ الْأَحْسَنِ الصَّبْرُ عَلَى الْغَيْرِ، وَالْعَفْوُ عَنْهُ، وَالْعَمَلُ بِالْعَزِيمَةِ دُونَ الرُّخْصَةِ، وَبِالْفَرِيضَةِ دُونَ النَّافِلَةِ، وَفِعْلُ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَتَرْكُ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ. قَوْلُهُ سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ قِيلَ: هِيَ أَرْضُ مِصْرَ الَّتِي كَانَتْ لِفِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ، وَقِيلَ: مَنَازِلُ عَادٍ وَثَمُودَ، وَقِيلَ: هِيَ جَهَنَّمُ، وَقِيلَ: مَنَازِلُ الْكُفَّارِ من الجبارة وَالْعَمَالِقَةِ لِيَعْتَبِرُوا بِهَا، وَقِيلَ الدَّارُ: الْهَلَاكُ. وَالْمَعْنَى:

سأريكم هَلَاكَ الْفَاسِقِينَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَحْقِيقُ مَعْنَى الْفِسْقِ. قَوْلُهُ سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ قِيلَ: مَعْنَى سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ سَأَمْنَعُهُمْ فَهْمَ كِتَابِي، وَقِيلَ سَأَصْرِفُهُمْ عَنِ الْإِيمَانِ بِهَا، وَقِيلَ سَأَصْرِفُهُمْ عَنْ نَفْعِهَا مُجَازَاةً عَلَى تَكَبُّرِهِمْ كَمَا فِي قَوْلِهِ فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ «٢» ، وَقِيلَ: سَأَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ حَتَّى لَا يَتَفَكَّرُوا فِيهَا وَلَا يَعْتَبِرُوا بِهَا.

وَاخْتُلِفَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَاتِ، فَقِيلَ: هِيَ الْمُعْجِزَاتُ، وَقِيلَ: الْكُتُبُ الْمُنَزَّلَةُ، وقيل: هي خلق السموات وَالْأَرْضِ، وَصَرْفُهُمْ عَنْهَا: أَنْ لَا يَعْتَبِرُوا بِهَا، وَلَا مَانِعَ مِنْ حَمْلِ الْآيَاتِ عَلَى جَمِيعِ ذلك، وحمل الصرف على


(١) . الزمر: ٥٥. [.....]
(٢) . الصف: ٥.

<<  <  ج: ص:  >  >>