جميع المعاني المذكورة وبِغَيْرِ الْحَقِّ إِمَّا مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ يَتَكَبَّرُونَ أَيْ: يَتَكَبَّرُونَ بِمَا لَيْسَ بِحَقٍّ، أَوْ بِمَحْذُوفٍ وَقَعَ حَالًا، أَيْ: يَتَكَبَّرُونَ مُتَلَبِّسِينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ. قَوْلُهُ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِها مَعْطُوفٌ عَلَى يَتَكَبَّرُونَ مُنْتَظِمٌ مَعَهُ فِي حُكْمِ الصِّلَةِ. وَالْمَعْنَى سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي الْمُتَكَبِّرِينَ التَّارِكِينَ لِلْإِيمَانِ بِمَا يَرَوْنَهُ مِنَ الْآيَاتِ، وَيَدْخُلُ تَحْتَ كُلِّ آيَةٍ الْآيَاتُ الْمُنَزَّلَةُ، وَالْآيَاتُ التَّكْوِينِيَّةُ، وَالْمُعْجِزَاتُ، أَيْ: لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَةٍ مِنَ الْآيَاتِ كَائِنَةً مَا كَانَتْ. وَقَرَأَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ يَرَوْا بِضَمِّ الْيَاءِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَجُمْلَةُ وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا مَعْطُوفَةٌ عَلَى مَا قَبْلَهَا دَاخِلَةٌ فِي حُكْمِهَا، وَكَذَلِكَ جُمْلَةُ وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ إِذَا وَجَدُوا سَبِيلًا مِنْ سُبُلِ الرُّشْدِ تَرَكُوهُ وَتَجَنَّبُوهُ، وَإِنْ رَأَوْا سَبِيلًا مِنْ سُبُلِ الْغَيِّ سَلَكُوهُ وَاخْتَارُوهُ لِأَنْفُسِهِمْ. قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَأَهْلُ الْبَصْرَةِ الرُّشْدِ بِضَمِّ الرَّاءِ وَإِسْكَانِ الشِّينِ. وَقَرَأَ أَهْلُ الْكُوفَةِ إِلَّا عَاصِمًا بِفَتْحِ الرَّاءِ وَالشِّينِ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: فَرَّقَ أَبُو عَمْرٍو بَيْنَ الرَّشَدِ وَالرُّشْدِ، فَقَالَ: الرَّشَدُ الصَّلَاحُ، وَالرُّشْدُ فِي الدِّينِ. قَالَ النَّحَّاسُ: سِيبَوَيْهِ يَذْهَبُ إِلَى أَنَّ الرشد كَالسُّخْطِ وَالسَّخَطِ.
قَالَ الْكِسَائِيُّ: وَالصَّحِيحُ عَنْ أَبِي عَمْرٍو وَغَيْرِهِ مَا قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ. وَأَصْلُ الرُّشْدِ فِي اللُّغَةِ: أَنْ يَظْفَرَ الْإِنْسَانُ بِمَا يُرِيدُ، وَهُوَ ضِدُّ الْخَيْبَةِ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ ذلِكَ إِلَى الصَّرْفِ، أَيْ: ذَلِكَ الصَّرْفُ بِسَبَبِ تَكْذِيبِهِمْ أَوِ الْإِشَارَةُ إِلَى التَّكَبُّرِ وَعَدَمِ الْإِيمَانِ بِالْآيَاتِ، وَتَجَنُّبِ سَبِيلِ الرُّشْدِ، وَسُلُوكِ سَبِيلِ الْغَيِّ، وَاسْمُ الْإِشَارَةِ مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرُهُ جُمْلَةُ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ أَيْ: بِسَبَبِ تَكْذِيبِهِمْ بِالْآيَاتِ وَغَفْلَتِهِمْ عَنْهَا، وَالْمَوْصُولُ فِي وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ مُبْتَدَأٌ. وَخَبَرُهُ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ، وَالْمُرَادُ بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ: لِقَاءُ الدَّارِ الْآخِرَةِ، أَيْ: لِقَائِهِمْ لَهَا أَوْ لِقَائِهِمْ مَا وُعِدُوا بِهِ فِيهَا عَلَى أَنَّ الْإِضَافَةَ إِلَى الظَّرْفِ، وَحُبَاطُ الْأَعْمَالِ، بُطْلَانُهَا، أَيْ: بُطْلَانُ مَا عَمِلُوهُ مِمَّا صُورَتُهُ صُورَةُ الطَّاعَةِ كَالصَّدَقَةِ وَالصِّلَةِ وَإِنْ كَانُوا فِي حَالِ كُفْرِهِمْ لَا طَاعَاتٍ لَهُمْ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يراد أنها تبطل بعد ما كَانَتْ مَرْجُوَّةَ النَّفْعِ عَلَى تَقْدِيرِ إِسْلَامِهِمْ لِمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «أَسْلَمْتَ عَلَى مَا أَسْلَفْتَ مِنْ خَيْرٍ» . هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كانُوا يَعْمَلُونَ مِنَ الْكُفْرِ بِاللَّهِ، وَالتَّكْذِيبِ بِآيَاتِهِ، وَتَنَكُّبِ سَبِيلِ الْحَقِّ، وَسُلُوكِ سَبِيلِ الْغَيِّ.
وَقَدْ أَخْرَجَ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ فِي نَوَادِرِ الْأُصُولِ عَنْ كَعْبٍ قَالَ: لَمَّا كَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى قَالَ: يَا رَبِّ! أَهَكَذَا كَلَامُكَ؟ قَالَ: يَا مُوسَى إِنَّمَا أُكَلِّمُكَ بِقُوَّةِ عَشَرَةِ آلَافِ لِسَانٍ وَلِي قُوَّةُ الْأَلْسُنِ كُلِّهَا، وَلَوْ كَلَّمْتُكَ بِكُنْهِ كَلَامِي لَمْ تَكُ شَيْئًا. وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَمَّا كَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى يَوْمَ الطُّورِ كَلَّمَهُ بِغَيْرِ الْكَلَامِ الَّذِي كَلَّمَهُ بِهِ يَوْمَ نَادَاهُ فَقَالَ لَهُ مُوسَى: يَا رَبِّ! أَهَذَا كَلَامُكَ الَّذِي كَلَّمْتَنِي بِهِ؟ قَالَ: يَا مُوسَى! إِنَّمَا كَلَّمْتُكَ بِقُوَّةِ عَشَرَةِ آلَافِ لِسَانٍ وَلِي قُوَّةُ الْأَلْسُنِ كُلِّهَا وَأَقْوَى مِنْ ذَلِكَ، فَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ قَالُوا: يَا مُوسَى! صِفْ لَنَا كَلَامَ الرَّحْمَنِ، فَقَالَ: لَا تَسْتَطِيعُونَهُ، أَلَمْ تَرَوْا إِلَى أَصْوَاتِ الصَّوَاعِقِ الَّتِي تَقْتُلُ، فِي أَحْلَى حَلَاوَةٍ سَمِعْتُمُوهُ فَذَاكَ قَرِيبٌ مِنْهُ وَلَيْسَ بِهِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنْ أَبِي الْحُوَيْرِثِ عبد الرحمن
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute