للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رسم عليه في بيت شادّ الدواوين يومًا وليلة، واستمر مع ذلك يتحدّث في أُستادارية الأَمير الكبير بيبرس، ثم لمّا تغيرت الأُمور التي بسطناها في سنة ثمان وثمانمائة وتمكَّن ابن غراب من المملكة أَراد الفتك بجمال الدين ثم اشتغل عنه بمرضه ولم يلبث أَن هلك، واستولى جمال الدين على الأُمور واستضاف الوزارة ونظر الخاص والكشف بالوجه البحري واستقرّ مشير الدولة.

ثم لما قُتل يشبك صفى له الوقت وصار عزيز مصر على الحقيقة، لا يُعقَد أَمر إلَّا برأْيه ولا تنفصل مشورة إلَّا عن رأْيه، ولا يخرج إقطاع إلَّا بإِذنه، ولا يَستخدم أَحدٌ من الأُمراء ولو عَظُم - كاتبًا عنده إلَّا من جهته، ولا تباع دار حتى تُعرض عليه، ولا يثبت مكتوب على قاضٍ حتى يستأْذنه، ولا يباع شيء من الجوهر والصيني ولا من آنية الذهب والفضة ولا من القز (١) والصوف والحرير ولا من كتب العلم النفيسة حتى تُعرَض عليه، ولا يلي أَحدٌ وظيفةً ولو قَلَّت - حتى نواب القضاة - إلَّا بأَمْره، ثم تجاوز ذلك حتى صار لا يَخْرُج إقطاع ولوْ قلَّ إلَّا بمشورته، ولا يحكم أَمير في فلاحه حتى يؤامره، ولا تُكتب وصية حتى تُعرَض عليه أَو يَأْذن فيها.

وخضع له الآمر والمأمور، وكثر تردّد الناس إلى بابه حتى كان رؤساءُ الدولة من الدويدارية وكاتب السِّرِّ ومَن دونهما ينزلون في ركابه إلى منزله، ولا يَصْدُر أَحد منهم إلَّا عن رأْيه، ثم شرع في انتهاك حرمة الأَوقاف فحلَّها أَوّلًا فأَوّلا حتى استبدل بالقصور الزاهرة المنيفة بالقاهرة كقصر بشتك (٢) والحجازية وغيرهما بشيءٍ من الطين من


(١) "الفرو" في الضوء اللامع ١٠/ ١١٥٧.
(٢) أفاض المقريزي في خططه ٢/ ٤١٣ - ٤١٧ في وصف هذين القصرين. وقصر بشتاك منسوب إلى بانيه الأمير بشتاك الذي شيده على مساحة كبيرة من الأرض، وبالغ فيه حتى وصفه المقريزي بأنه "من أعظم مباني القاهرة". وله شبابيك من حديد تشرف على شارع القاهرة، وينظر من أعلاه عامة القاهرة والقلعة والنيل والبساتين"، وكان تمام بنائه سنة ٧٣٨ هـ، وعلى الرغم من حسن روائه إلا أن صاحبه "كان إذا نزل إليه ينقبض صدره ولا تنبسط نفسه ما دام فيه حتى يخرج منه. . . فكرهه وباعه لزوجة بكتمر الساقي". أما قصر الحجازية فكان يعرف أولا بقصر الزمرد في أيام الفاطميين، ثم لما كان زمن الأيوبيين اشتراه الأمير بدر الدين بن خطير الحاجب، ثم صار يعرف بقصر قوصون، ثم اشترته خوند تتر الحجازية ابنة الملك الناصر محمد بن قلاوون فبالغت في الصرف عليه وتزيينه، فأصبح ينسب إليها وبنت بجواره مدرستها المعروفة بالمدرسة الحجازية وجعلت القصر وقفًا عليها.