للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

صنعت ألقى المدية وجاء إلى الموضع الذي رمت بنفسها منه فقال:

أنت الذي غرقتني ... بعد القضا لو تعلمين

لا خير بعدك في البقا ... والموت زين العاشقين

ثم رمى بنفسه في أثرها وعانقها في الماء، فكان آخر العهد بهما. فعظم الأمر على محمد والتفت إلي وقال: يا عمرو، حدثني بحديث تسليني به عن هذين، وإلاّ لحقت بهما! فقالت: جلس سليمان بن عبد الملك يوما للمظالم فعرضت عليه بطاقة فيها: إن رأى أمير المؤمنين أعزه الله أن يخرج ألي جاريته فلانه حتى تغني لي ثلاثة أصوات فعل. فاغتاظ وأمر بإحضاره. فلما حضر قال: ما حملك على ما صنعت؟ قال: الثقة بحلمك. فسري عنه وأمره بالجلوس وأمر الناس بالانصراف. ثم أمر بإخراج الجارية فجاءت بعودها وجلست. فقال لها الفتى: غني لي:

تعلق روحي روحها قبل خلقنا ... ومن بعد ما كنا نطافا وفي المهدِ

وزاد كما زدنا وأصبح ناميا ... وليس وإن متنا بمنتقض العهدِ

ولكنه باقٍ على حاله كذا ... وزائد ما في ظلمة القبر واللحدِ

فلما غنته طرب طربا شديدا وقال: فداؤك أبي وأمي! قال: غني لي:

إذا قلت: مابي يا بثينة قاتلي ... من الحب قالت: ثابتٌ ويزيدُ

وإن قلت: ردي بعض عقلي أعش به ... مع الناس قالت: ذاك منك بعيدُ

يموت الهوى مني إذا ما لقيتها ... ويحيا إذا فارقتها ويعودُ

فلما غنت طرب طربا أعظم من الأول وقال: فدتك نفسي! ثم قال: غني لي:

مني الوصال ومنكم الهجر ... حتى يفرق بيننا الدهرُ

والله لا أنساكم أبداً ... ما لاح نجم أو بدا بدرُ

فما أتمتها حتى زج بنفسه في الهواء ثم انعكس على دماغه وسقط بالأرض فإذا هو ميت. فقال سليمان: عجل على نفسه. والله ما أخرتها إلاّ على ملكه! يا غلام خذ بيدها وانطلق بها فإن كان له أهل وإلاّ بيعت وتصدق بثمنها عليه. فانطلق بها، فلما توسطت الدار رأت حفرة أعدت لماء المطر فقالت:

<<  <  ج: ص:  >  >>