وَتُعْرَفُ الْحَقِيقَةُ بِمُبَادَرَتِهَا إِلَى الْفَهْمِ بِلَا قَرِينَةٍ، وَبِصِحَّةِ الِاشْتِقَاقِ مِنْهُ، وَتَصْرِيفِهِ، نَحْوَ أَمَرَ يَأْمُرُ أَمْرًا فِي الْأَمْرِ اللَّفْظِيِّ، بِخِلَافِهِ بِمَعْنَى الشَّأْنِ، نَحْوَ: {وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} إِذْ لَا يَتَصَرَّفُ، وَبِاسْتِعْمَالِ لَفْظِهِ وَحْدَهُ مِنْ غَيْرِ مُقَابِلٍ، كَالْمَكْرِ فِي غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى، بِخِلَافِهِ فِيهِ نَحْوَ: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ} ، وَبِاسْتِحَالَةِ نَفْيِهِ، نَحْوَ: الْبَلِيدُ لَيْسَ بِإِنْسَانٍ، بِخِلَافِ، لَيْسَ بِحِمَارٍ.
ــ
قَوْلُهُ: «وَتُعْرَفُ الْحَقِيقَةُ بِمُبَادَرَتِهَا إِلَى الْفَهْمِ بِلَا قَرِينَةٍ» ، إِلَى آخِرِهِ.
لَمَّا فَرَغَ مِنْ ذِكْرِ أَقْسَامِ التَّجَوُّزِ، أَخَذَ يُبَيِّنُ مَا تُعَرَّفُ بِهِ الْحَقِيقَةُ مِنَ الْمَجَازِ مِنَ الْعَلَامَاتِ، وَذَلِكَ مِنَ الْمُهِمَّاتِ، وَهُوَ مِنْ وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: مُبَادَرَتُهَا، أَيْ: مُبَادَرَةُ الْحَقِيقَةِ إِلَى الْفَهْمِ بِلَا قَرِينَةٍ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّفْظَ الْمُحْتَمِلَ لِمَعْنَيَيْنِ فَأَكْثَرَ، إِمَّا أَنْ يَتَبَادَرَ فَهْمُ أَهْلِ اللُّغَةِ عِنْدَ إِطْلَاقِهِ بِلَا قَرِينَةٍ إِلَى جَمِيعِ مُحْتَمَلَاتِهِ، أَوْ إِلَى بَعْضِهَا، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمُشْتَرَكُ، كَلَفْظِ الْعَيْنِ وَالْقُرْءِ.
وَأَمَّا الثَّانِي: فَالْمُتَبَادَرُ إِلَى الْفَهْمِ هُوَ الْحَقِيقَةُ، لِأَنَّ السَّامِعَ لَوْ لَمْ يُضْطَرَّ إِلَى أَنَّ الْوَاضِعَ وَضَعَ ذَلِكَ اللَّفْظَ لِذَلِكَ الْمَعْنَى الْمُتَبَادَرِ، لَمَا سَبَقَ إِلَى فَهْمِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنَّ مُبَادَرَةَ ذَلِكَ الْمَعْنَى إِلَى فَهْمِ السَّامِعِ كَانَ لِإِلْفِهِ لَهُ، وَكَثْرَةِ دَوْرِهِ عَلَى الْأَلْسِنَةِ فِي عُرْفِ التَّخَاطُبِ، لَا لِأَنَّهُ هُوَ الْحَقِيقَةُ الْوَضْعِيَّةُ.
قُلْنَا: الْكَلَامُ فِيمَا إِذَا كَانَ السَّامِعُ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ الَّذِينَ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْوَضْعِيَّاتِ وَالْعُرْفِيَّاتِ، ثُمَّ بِتَقْدِيرِ أَنْ تَكُونَ مُبَادَرَةُ اللَّفْظِ إِلَى فَهْمِ السَّامِعِ لِإِلْفِهِ لَهُ، يَكُونُ أَيْضًا حَقِيقَةً عُرْفِيَّةً أَوِ اصْطِلَاحِيَّةً، فَلَا تَخْرُجُ الْمُبَادَرَةُ عَنْ كَوْنِهَا تَدُلُّ عَلَى الْحَقِيقَةِ.
وَقَوْلُنَا: بِلَا قَرِينَةٍ، احْتِرَازٌ مِنْ مُبَادَرَةِ اللَّفْظِ بِقَرِينَةٍ، فَإِنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى الْحَقِيقَةِ، بَلْ قَدْ يَكُونُ اللَّفْظُ مَجَازًا، إِذْ شَرْطُ الْمَجَازِ الْقَرِينَةُ، لِمَا عُرِفَ مِنْ أَنَّ اللَّفْظَ إِذَا تَجَرَّدَ عَنْ قَرِينَةٍ فَهُوَ لِلْحَقِيقَةِ، لِأَنَّهَا الْأَصْلُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ، وَالْمَجَازُ خِلَافُ الْأَصْلِ.
مِثَالُهُ: إِذَا قَالَ الْقَائِلُ: رَأَيْتُ أَسَدًا، أَوْ بَحْرًا، أَوْ حِمَارًا، وَلَا قَرِينَةَ هُنَاكَ، حُمِلَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute