الثالث من العذر: أنه حديث مخالف للقياس الجلي، والأصول القياسية المقطوع بها إذا وجدت تمنع العمل به.
قلنا: لأن مخالفة الأصول القياسية إنما تكون بما ثبت الحكم في أصله قطعًا، ويكون الفرع في معنى النصوص، والمخالفة لا تكون إلا فيما علم عراؤه عن مصلحة تصلح أن تكون مقصودة بشرع الحكم، وهاهنا كذلك؛ فإن منع الغير عن إبطال حق الغير ثابت بعد التفرق قطعًا، وما قبل التفرق في معناه، ولم يتفرقا إلا فيما يقطع بتعريه عن المصلحة، والقاطع مقدم على المظنون لا محالة، وخبر الواحد مظنون.
والجواب: عدم افتراق الفرع من الأصل إلا فيما يعتبر من المصالح، فإن البيع يقع بغتة من غير ترو، وقد يحصل الندم بعد الشروع فيه، فإثبات خيار المجلس لكل واحد من المتعاقدين مناسب؛ دفعًا لضرر الندم؛ فيما لعله يتكرر وقوعه، ولم يكن إثباته مطلقًا فيما بعد التفرق وقبله؛ فإنه رفع بحكمه العقد، فجعل التفرق حزيمًا لاتباع هذه المصلحة، وهو معنًى معتبر لا يستوي فيه ما قبل التفرق وبعده، ولا ينظر إلى القياس المخالف للأصول، ويرد؛ فإن الأصول تثبت بالنصوص، وهي ثابتة في الفروع المعينة، وغاية ما فيه أن يكون الفرع آخر الجزئيات من الكليات لمصلحة خصها، أو تعبدًا، فيجب اتباعه.
الرابع من العذر عن الحديث:
بمعارضة إجماع أهل المدينة على مخالفته قولًا وعملًا، فيقدم عليه العمل.
قال مالك - رحمه الله - عقب روايته: وليس لهذا عندنا فقه معلوم، ولا أمر معمول به فيه، وقد اختص أهل المدينة بالسكنى في محل مهبط الوحي، ووفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - بين أظهرهم، ومعرفتهم بالناسخ والمنسوخ، فمخالفتهم لبعض الأخبار يقتضي علمهم بما يوجب ترك العمل به من ناسخ، أو تأويل راجح، ولا تهمة تلحقهم، فتعين اتباعهم، وكان ذلك أرجح من خبر الواحد المخالف لعلمهم.