والجواب عن ذلك: أنه ليس في لفظ مالك - رحمه الله - ما يقتضي التصريح بأن المسألة في ترك العمل به إجماع من أهل المدينة، والإجماع متردد بين إجماع سابق أو لاحق، والسابق باطل بقول ابن عمر - رضي الله عنهما -، وهو رأس المفتين في وقته بالمدينة بثبوت خيار المجلس، واللاحق مردود؛ فإن ابن أبي ذؤيب - رحمه الله - من أقران مالك ومعاصريه، وقد أغلظ على مالك لمَّا بلغه مخالفة هذا الحديث، فامتنع إجماع أهل المدينة على ترك العمل بخبر الواحد، مع أن إجماعهم ليس مانعًا من العمل بخبر الواحد؛ لأن الدليل العاصم للأمة من الخطأ في الاجتهاد لا يتناول بعضهم، ولا مستند للعصمة سواه، فلا يكون إجماعهم حجة فيما طريقه النظر والاجتهاد، وكيف يمكن أن يقال: بأن من كان في المدينة من الصحابة -رضوان الله عليهم- يقبل خلافه ما دام مقيمًا بها، فإذا خرج عنها، لم يقبل خلافه؟! فإن هذا محال؛ فإن قبول خلافه باعتبار صفات قائمة به حيث حل، فيفرض المسألة فيما اختلف فيه أهل المدينة مع بعض من خرج عنها من الصحابة بعد استقرار الوحي وموت الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فكل ما قيل من ترجيح أقوال علماء المدينة، وما اجتمع لهم من الأوصاف، قد كان حاصلًا لهذا الصحابي، ولم يزل عنه بخروجه، وقد خرج من المدينة أفضلُ أهل زمانه في ذلك الوقت بالإجماع من أهل السنة، وهو علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، وقال أقوالًا بالعراق، وكيف يمكن أن تهدر إذا خالفها أهل المدينة، وهو كان رأسهم؟! وكذلك ابن مسعود، ومحله من العلم معروف، وغيرهما، قد خرجوا وقالوا أقوالًا، على أن بعض الناس يقول: إن المسائل المختلف فيها خارجَ المدينة مختلفٌ فيها بالمدينة، وادعى العموم في ذلك.
الخامس من العذر عن الحديث:
أنه ورد في بعض طرقه:"ولا يحلُّ له أَنْ يُفارقَهُ خَشْيَةَ أَنْ يَسْتَقيلَهُ"، وذلك يدل على عدم ثبوت خيار المجلس؛ لأنه لولا أن العقد لازم، لما احتاج إلى الاستقالة، ولا طلب الفرار منها.