وسياق هذا الحديث يقتضي أن جوابه - صلى الله عليه وسلم - للسائل إنما كان بعد وقوع الواقعة، دون ما قبلها، ومن حمل الحديث على احتمال وقوع المسؤول عنه: أخذ منه جواز مثل ذلك، والاستعداد للوقائع بعلم أحكامها قبل أن تقع، وعليه استمر عمل الفقهاء، فيما فرعوه وقرروه من النوازل قبل وقوعها، والله أعلم.
وأما ما كان من المسائل ما تدعو الحاجة إليه لأمر الدين، وقصد بالسؤال عنه التبيين والتعلم؛ فلا بأس به؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يُسأل عن الأحكام، فلا يكره ذلك؛ بحيث لا يكثر السؤال، ولهذا نهى - صلى الله عليه وسلم - عن كثرة السؤال، إما سدًّا لباب سؤال الجهلة والمنافقين وأهل الكتاب، أو لما يخشى منه من التضييق عليهم في الأحكام التي لو سكتوا عنها، لم يلزموها.
ويحتمل أن النهي عن كثرة السؤال؛ لعدم ضبط السائل عما سأل بسببها؛ لأن المقصود إنما هو الضبط والفهم، ومع الكثرة لا يحصل ذلك.
وقد نبه الله -سبحانه وتعالى- على هذا المعنى في حكايته على الكفار في قوله تعالى:{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا}[الفرقان: ٣٢]، فكل ما قل وفُهم كان خيرًا مما كثر ونُسي أو لم يفهم، والله أعلم.
ومنها: أنه ينبغي للإنسان إذا وقع له خاطر في أمر معضل، ألَّا يتكلم به، وأن يصرفه عن خاطره، فإن استمر ولم ينصرف، أنزله بالله تعالى أولًا، ثم سأل عنه العلماء بالله تعالى وبأحكامه، ولا يبادر بالتكلم به وإبرازه؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعرض عنه بالسكوت وعدم الجواب.
ومنها: الرجوع إلى الله تعالى، ورسوله في الأمور المعضلة، ولا يجتهد في أحكامها؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يجتهد في حكم سؤاله، بل صبر حتى نزل القرآن به.
ومنها: التثبت في أحكام الشرع، ولا يعمل بالاجتهاد فيها حتى يفقد النص، فإذا فقد، عمل بالاجتهاد، ولا يجوز الإقدام على العمل إلا بعد ذلك؛ حيث إن الله تعالى جعل في كل واقعة حكمًا.