مواجيدهم بالتجسيم، ويجعلونهم كفارًا؛ حيث إنهم عبدوا جسمًا، وهو غير الله تعالى، ومن عبد غير الله، كفر؛ حيث إنهم ألزموهم بأذهانهم غير ما يلزم تسميةً ولا معنى، ولا مرادًا لقائله، ويقابلهم هؤلاء بإلزامهم في النفي المطلق مثلما ألزموهم بالتعطيل العاري عن الوجود، ويكفرونهم بذلك؛ للزومه في الذهن عندهم.
ويقولون لهم: قد اعترفتم بأحكام الصفات، وأنكرتم الصفات، ويلزم من إنكار الصفات إنكارُ أحكامها، ومن أنكر أحكامها، فقد كفر، فيكفرونهم بطريق المآل الذي كفروهم به أهل الإثبات المطلق.
والحق أن الكلام في ذلك إثبات مقيد بالتنزيه عن مشابهة المخلوقين، فلا يسمى إثباته تجسيمًا، ولا يسمى نفيه عن مشابهة المخلوقين تعطيلًا.
فلا يكفر أحدًا من أهل القبلة إلا بإنكار متواتر من الشريعة عن صاحبها، فكأنه حينئذ يكون مكذبًا للشرع، ولم يؤاخذه بالتكفير بنفي مأخذ القواطع، وإنما يؤاخذه به بنفي أحكام القطعيات السمعيات طريقًا.
ودلالة مثاله من أنكر الطريق إثبات الشرع لم يكن كمن أنكر الإجماع، ومن أنكر الشرع بعد الاعتراف بطريقه كفر؛ لأنه مكذب له، وقد نقل عن بعض المتكلمين أنه قال: لا أكفر إلا من كفرني.
ولما خفي ما ذكرته على بعض الناس، كان ذلك سببًا لتكفير بعضهم بعضًا، واحتاج كل من الفريقين إلى حمل ما يذكره على غير محمل صحيح، ويتأوله بتأويلات مخالفة لما ينبغي أن يحمل عليه هذا الحديث، الذي يقتضي أن من دعا رجلًا بالكفر، وليس كذلك، رجع عليه الكفر.
ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ قالَ لأخيهِ: يا كافرٌ، فَقَدْ باءَ بِها أَحَدُهما"(١).
(١) رواه البخاري (٥٧٥٣)، كتاب: الأدب، باب: من أكفر أخاه بغير تأويل، فهو كما قال، ومسلم (٦٠)، كتاب: الإيمان، باب: بيان حال إيمان من قال لأخيه المسلم: يا كافر، عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -.