التغيرات العلوية، فإن قيل: وأي تخويف في ذلك؟ والكسوف أمرٌ عادي بحسب تقابل هذه النيرات وحجب بعضها لبعض، وذلك يجري مجرى حجب الجسم الكثيف نور الشمس عما يقابله من الأرض، وذلك لا يحصل به تخويف، فيكون لكسوف الشمس والقمر أسبابٌ عادية يخرج كسوفهما عن التخويف، فينافي التخويف المذكور في الحديث، وذلك فاسد؛ فإنا لا نسلم أن سبب الكسوف ما ادعوه، ومن أين عرفوا ذلك بالعقل أم بالنقل؟ وكل واحد منهما إما بواسطة تطرأ، أو بغير واسطة، ودعوى شيء من ذلك ممنوعة، وغايتهم أن يقولوا:[إن] ذلك مبني على أمور هندسية ورصدية يفضي بسالكها إلى القطع، ونحن نمنع إفضاء ما ذكروه إلى القطع، وهو أول المسألة، ولئن سلمنا ذلك جدلًا، لكنا نقول: يحصل بهما تخويف العقلاء من وجوه متعددة: أوضحها: أن ذلك مذكر بالكسوفاتِ التي تقع بين يدي الساعة، ويمكن أن يكون ذلك الكسوف منها، ولذلك قام - صلى الله عليه وسلم - فزعًا يخشى أن تقوم الساعة، وكيف لا وقد قال تعالى: {فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (٧) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (٨) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} [القيامة: ٧، ٨، ٩]، قال أهل التفسير: جمع بينهما في إذهاب نورهما، وقيل غير ذلك.
و-أيضًا- فإن كل ما في العالم علويِّه وسفليِّه دليل على تفرد قدرة الله تعالى وتمام قهره باستغنائه وعدم مبالاته، وذلك كله يوجب عند العلماء بالله خوفه وخشيته؛ كما قال تعالى:{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}[فاطر: ٢٨]، فأصحاب المراقبة له ولأفعاله -سبحانه وتعالى- الذين عقدوا أبصار قلوبهم بوحدانيته وعظيم قدرته على خرق العادة واقتطاع المسببات عن أسبابها، إذا وقع عندهم شيء غريب، حدث عندهم الخوف؛ لقوة اعتقادهم في فعل الله تعالى على ما يشاء، وذلك لا يمنع أن يكون ثم أسبابٌ تجري عليها العادة إلى أن يشاء الله تعالى خرقها، ولهذا كان - صلى الله عليه وسلم - عند اشتداد هبوب الريح يتغير، ويدخل ويخرج خشية أن تكون كريح عافى، وإن كان هبوب الريح موجودًا في العادة، فيكون لله تعالى أفعال خارجة عن كل الأسباب، وأفعال خارجة على الأسباب، وقدرته -سبحانه وتعالى- حاكمة على كل سبب، فيقطع ما شاء من الأسباب والمسببات بعضها عن بعض.