قوله:"لا يُحَدِّثُ فِيهِمَا نَفْسَهُ" اعلم أنَّ حديثَ النَّفسِ على قسمينِ:
أحدُهما: ما يهجُم عليها، ويتعذَّرُ دفعهُ عنها.
والثَّاني: ما يسترسلُ معها، ويمكنُ دفعُه وقطعُه.
فيُحمَلُ الحديثُ عليه دونَ الأول؛ لِعُسر اعتبارِه، ولفظُ الحديث يقتضيه بقوله:"لا يحدِّث"؛ فإنَّه يشهد بتَسَبُّبٍ وتفعُّلٍ لحديثِ النَّفْسِ، ويُمكنُ أَنْ يُحملَ على القسمين؛ لتعلُّق العسرِ بالتَّكاليف في وجوب دفعِه وتحصيلِها لحصول الثَّواب المترتَب عليها، فمن حصل له ذلك العملُ، حصل له ذلك الثوابُ، ومن لا، فلا، ولا يكونُ ذلك من باب التَّكاليف المأثوم تاركه حتى يلزمَ دفع العسر عنه، نعم لا بدَّ أَنْ تكون الحالةُ المترتَّبُ عليها الثَّوابُ المخصوصُ ممكنةَ الحصول، وهي التَّجَرُّدُ عن شواغلِ الدُّنيا، وغلبة ذكرُ الله تعالى على القلب، وتعميرُه به، وذلك حاصل لأهل العناية، ومحكيٌّ عنهم، ثمَّ إن حديثَ النَّفس يعمُّ الخواطر الدُّنيويَّةَ والأخرويَّةَ، والحديثُ محمول على المتعلِّقِ بالدُّنيا فقط؛ لأنَّه مأمورٌ بالفِكْرِ في معاني المتلوِّ من القرآن العزيز والذكر والدَّعوات، وتدبُّرِها، وذلك لا يحصلُ إلا بحديثِ النَّفس، وليس كلُّ أمرٍ محمودٍ أو مندوبٍ بالنِّسبةِ إلى غيرِ وقتِه وحالِه من أمور الآخرة، بل قَدْ يكونُ أجنبيًّا عنها، مثابًا عليه.
وقد كان عمر - رضي الله عنه - يجهِّزُ الجيوشَ وهو في الصَّلاة، واستعجلَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في صلاةٍ وفراغِهِ منها، وسُئِلَ عن ذلك، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "كَانَ عِنْدِي شَيْءٌ مِنْ تِبْرٍ، فَكَرِهْتُ أَنْ يُحْتَبَسَ، فَقَسَّمْتُهُ"(١)، وكل ذلك قربة خارجة عن مقصود الصّلاة.
قوله - صلى الله عليه وسلم -: "غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ" الطاهر فيه العمومُ في الكبائر والصَّغائر،
(١) رواه البخاري (٨١٣)، كتاب: صفة الصلاة، باب: من صلَّى بالناس فذكر حاجة فتخطاهم، من حديث عقبة بن الحارث - رضي الله عنه -.