للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الغروب وأدخلت دار الصّناعة فوجدت بها خلقا كثيرا، كلّهم على المعاصي والفسوق لا يذكرون الله إلاّ قليلا، فانزويت خلف مركب فصلّيت سرّا لأنّي ما رأيت أحدا منهم يتوضّأ ولا يصلّي، فبقيت إلى الغد ضحى، فنودي بي، فقال لي صاحب الصّناعة:

أنت صاحب الجبنياني؟ قلت له: نعم. قال: إنصرف وها أنا محوت إسمك من الدّفتر، قلت: من سأل في؟ قال: أتاني رجل راكب على فرس له هيبة، سألني فيك، والله ما رأيته قبلها، ولا أعرف من هو، قال: فمضيت فأتيت أهلي ليلا، فسألت إبني متى مضيت إلى أبي إسحاق، فعرفني أنّه ضحوة في حين أطلعت من الصنعة، فقلت لابني: كيف كان دعاؤه؟ قال: لما أخبرته توضّأ وقام يصلّي، وقد أغلق على نفسه باب المسجد، وكنت أسمعه وهو يبكي / ويقول: اللهم، السّاعة السّاعة فكّ أسره وأنقذه من يد عدوه، ولا تجعل لهم عليه سبيلا ونحو هذا من الدعاء، قال: فأتيت الشّيخ وأخبرته، فقال: احمد الله فأنت مضطرّ وقد أجيبت دعوتك، ولكن أعرف كيف تستقبل نعمة ربّك، فاعتزل أبو زكرياء هذا ولزم العبادة بمرسى اللوزة، وكان يسرد الصّوم ويصيد بيده من البحر لقوته ويتصدّق منه حتّى جرت له قصّة في آخر عمره فكتمها، وهي: أن سلاّبة نزلوا عليه في مرسى اللوزة بشماع (١٧٨) ففتحوا الباب، ثمّ قسموا بيوت المرابطين فانتهبوا ما كان فيها حتّى أتوا إلى بيت أبي زكرياء، فوجدوه قائما في الصّلاة وسراجه يوقد، وهو يصلّي، فقطعوا صلاته وقالوا له: هات ما عندك من الودائع وإلاّ عذّبناك، فقال:

إتّقوا الله ولا يغرّنّكم حلمه فيكم، ولا تتّبعوا الشّيطان، فقال بعضهم لبعض: هذا لا يجيئكم منه شيء إلاّ بالعذاب، قال: فجاءوا إليّ بخيط قنب (١٧٩) ورفعوا مئزري ليلقوه في أنثيني (١٨٠) فلمّا رأيت البلاء قد نزل رفعت عيني إلى السّماء وأنا أبكي وأتضرّع فقلت: إلا هي، ما هذا ظنّي بك، أعبدك لا أشرك بك شيئا تسعين سنة، فتهتك ستري وتفضحني في آخر عمري، لا وعزتك ما هذا ظنّي بك، قال: فسقط الخيط من أيديهم وولوا هاربين ما أخذوا من البيت شيئا، فقلت: اللهم لا تبق (١٨١) على الأرض منهم أحدا! فما أتى عليهم ثلاثون يوما حتى قتلوا كلّهم، ومات أبو زكرياء وقد بلغ المائة.


(١٧٨) كذا كتبها اللبيدي وكتبها المؤلّف فيما سبق: شموع وهو الصّواب.
(١٧٩) في بقية الأصول والمناقب: «قرنب».
(١٨٠) كذا بالأصول وبعض نسخ المناقب، وفي أخرى: «انثاي»، وفي تاج العروس ١/ ٦٠٠: «تحت الأذنين».
(١٨١) في الأصول وبعض نسخ المناقب: «تبقى»، هامش ٩ ص: ٥٢.