فلما تراءى الجمعان انحاز إلى بساتين هناك وجعل بيْنه وبين المسلمين نهرًا، ثم تقدم نحو الخمس مائة من المقاتلة فبرز لهم من المسلمين خمسة (١) هم: تغرى بردى الخَزِنْدار وقَطْلُوبُغَا والمُصارع وعلان فبادروا للأَبراج، فلحق بهم ابن القَاق مقدم العشير ومعه نحو الثلاثين فتنادوا:"ياوجوهَ العرب ويا آل جركس: إن أبواب الجنان فُتِحت، إنْ مِتُّم كنتم شهداء، وإنْ عشتم عشتم سعداء، بيّضوا وجوهكم، وأَخلصوا العمل لله!! " فحملوا عليه حملة واحدة فنصرهم الله تعالى، وقاتل يومئذ قَطْلُوبُغا قتالا شديدا فعَثر به جواده فقام عنه وقاتل راجلًا إلى أن قُتل، فلما رأى جانوس أن عسكره في إدبار وقد استظهر عليهم أهل الإسلام رَكن إلى الهرب؛ ثم إن عسكره خالفوه وحملوا، فصبر لهم المسلمون واشتدّ الأَمر، فاتفق أَن جانوس وقع عن فرسه فنزل أَصحابُه فأَركبوه فوقع ثانيًا فأَركبوه، فكبا به الفرس فدهشوا وذهلوا عنه، وانكسر عسكره وولوا الإدبار، فرآه بعض الترك فأراد قتله فصاح:"أنَا الملك! " فأَسروه.
واستمر المسلمون خلف الفرنج فأوسقوهم نَبلا فلم يزالوا كذلك إلى أَن غربت الشمس، وقيل إن جملة من قُتل منهم في ذلك اليوم ستة آلاف. ثم رجع المسلمون فنزلوا على الماء وباتوا على أهبة، فلما أصبحوا توجّه يشبك الشَّاد ومَن معه إلى جبل الصليب فخرّبه وما حوله مِن الدّيارات، وأَحضروا الصليب الذي كان به وكانوا يعظمونه حتى إنهم يسمونه صليب الصُّلبان، ثم سار المحمودي بالعسكر إلى جهة الملَّاحة، وتوجّه بعض العسكر إلى مَن بالمراكب فأَعلموهم بما وقع من المسلمين، وأَن صاحب قبرص مقيدٌ، وأَن أَخاه قتل، وأَن ابن أَخي صاحب الكتلان الذي جاء نجدةً له مقيد، ثم وصل العسكر وكان ثاني شهر رمضان.
فلما كان يوم الخميس خامسه ساروا إلى الأَقْفَهْسِية وهى كرسى المملكة، فلما رأى الفرنج الذين في القراقر خُلُوَّ البحر من الجند حطموا على مراكب المسلمين، فأَمر الجكمي مَن بقى عنده بمدافعتهم وأَرسل إلى المحمودي يُعْلِمه، فأَعاد عليه أَكثر العساكر وتأَخر معه طائفة، فلما رجعوا وجدوهم في وسط القتال، فأَعلنوا بالتكبير فأَجابهم مَن في البحر، وتبادروا إلى طلوع المراكب، ومشوا على مراكب الفرنج، فاشتد القتال إلى أَن دخل الليل، فحجز بينهم فلما طَلع الفجر بَعُدت مراكب الفرنج من المسلمين، فلما هربوا تفطن