"ياسيدى ما الذى رأيت مني من النقص الذي أوجب لك النفرة من الولاية في أيامي؟ "فقال الشيخ: والله مارأيت منك ولا سمعت عنك شيئا أكرهه، ولكن الصدق في الأمور أولى من غيره، والله ما أدع ذلك زهدا في دنيا ولا ورعا ولكنى أضعف من ذلك ولا أصلح له. وأنا والله عاجز عن إصلاح أموري فكيف بأمور الناس. وقد قال لي صاحب هذا القبر (وأشار إلى قبر الشيخ علاء الدين) إن سئلت في ولاية القضاء فلا تقبل فالموت خير من ذلك، قال الشيخ برهان الدين: فرأيت دموع النائب تتقاطر على لحيته ثم قال: قبلنا ذلك منك ولكن يجب أن تلبس الخلعة ونكاتب السلطان ونسأله أن يقيلك من ذلك. فقال ليس في لبسي إياها فائدة بل يراجع من غير لبلسي لها ثم انصرف. فلما بلغ السلطان ذلك سأل عمن يصلح فقيل: الشيخ تقي الدين بن قاضي شهبة، فولاه، فلما عصى الجكمي على السلطان أمره أن يخطب باسم الملك العزيز فلم يجسر على مخالفته ففعل في تلك الجمعة التي أمره فيها ثم اختفى واستمر حتى أخذ الجكمي فذكره للعزيز ولم ينفعه اختفاؤه واستمر الظاهر حاقدا على ذلك ولما أخذ الجكمى ودخل أقبغا التمرازي إلى دمشق وحضر عنده الناس والقضاة تنمر على الشيخ تقي الدين بن قاضي شهبة وحمل عليه الطير ولم يفده الاعتذار، وقصد النائب جميع أعيان أهل دمشق للسلام عليه إلا الشيخ برهان الدين الباعوني -وكان إذ ذاك ناظر الأسوار .. فأرسل إليه مع بعض الأتراك يأمره أن يعمر ما تشعث من الأسوار أو يرسل له خمسمائة دينار. فلما سمع كلامه لم يملك نفسه ان اضرط بفمه، فقال له ذلك التركي: "بارك الله فيك، لقد أحسنت في جواب ملك الأمراء، ثم رجع إليه فأخبره بذلك فاستشاط غضبا فأمر بأن يحضر مهانا في جماعة مستكثرة، فأخبره من كان حاضرا من الأعيان بترجمته وأن ذلك لايليق به ويشق على الجميع، فقصد إلى الشيخ برهان هو بنفسه وتأدب معه ثم حصلت بينهما مصادقة كبيرة، فقال الشيخ تقي الدين بن قاضي شهبة: "هذا ببركة الزهد في المناصب حماه الله من تلك الفتنة" ثم جعل ملوك الشام تتردد إليه وإن قبلت فوقعت في الفتنة وأصبحت يحمل على بالاطبار فوا أسفاه، يالله". (١) جاء في هامش هـ أمام هذا الخبر بخط البقاعي التعليق التالي: "أخبرنى العلامة زين الدين عمر الغزاوي - بمعجمتين مخففا- العجلوني الشافعي أن شيخنا العلامة تقي الدين بن قاضي شهبة صلى الجمعة لما ولي القضاء فقرأ "هل أتاك حديث الغاشية" فغلط في قوله تعالى "وإلى الجبال كيف نصبت" وما بعدها، فلما كانت الجمعة الثانية أعادها ليستدرك ذاك فعاد له الغلط، فبينما هو قاعد يوما في درسه جاء شمس الدين محمد بن محمد بن عرب شاه المجنون - أخو الشيخ شهاب الدين- وكان المذكور من ظرفاء المجانين فإنه كان فاضلا في علوم ويحفظ شعرا كثيرا وصوته حسن فلما سلب صار يخلط ما يعرفه خلطا عجيبا فيأتي بالبدائع. وله أجوبة فريدة فلما راه ابن قاضي شهبة مقبلا قال: "اللهم سلمنا" قال الشيخ زيد الدين فقلت السلامة منه أن أعطيه درهما، فقال: لا حتى يأتي فلان: (يشير إلى شخص من غلمانه) وتعطيه، فسلم وطلب شيئا فقال الشيخ: حتى يأتي علاء الدين ويعطيك!! " فالتفت إلى بعض الحاضرين وقال: أليس هذا ابن قاضى شبهة الذى صلى الجمعة فخفض السماء ورفع الأرض وساطح الجبال؟ ثم مضى وقد زاد خجل الشيخ".