العاصف ففرّقهم وضعضع بعضهم، فاجتمعوا إلا اثنين، أحدهما لم يقفوا له على أثر، والثاني من حين قتالهم إلى ظهر يوم الإثنين ثاني عشر الشهر، فكان ذلك من آيات القول المحمدي:"نصرتُ بالصّبا".
وفي ذلك اليوم حطم الناس، واشتدّ الباس، وقامت الحرب على ساق، وكلَّت من النظر الأحداق، واشتكتْ إلى أبدانها الأعناق، واستداروا بالحصن من غالب الجوانب، وكثر في رمينا الصائب، فحمى الوطيس وخُذل إبليس، وأخطأت كثيرًا سهامهم ومكاحلهم، وأصيْبت دروعهم ومقاتلهم، وحينئذٍ استدارت الريح دبورًا فكانت من علامات إهلاكهم، وأهلكت عاد بالدبور، وهَدَّتْ مكحلتنا عند ذلك ناحية من الجدار، وأضرِم بسهم. خطّى مِن تحته نار.
وكان ذلك من بديع الآيات، وعظيم العنايات، ومازالت تقلله تقليلًا، وتهدمه قليلًا قليلًا، إلى أن هدمت منه جانبًا كبيرا، وكان يوما على الكافرين عسيرا.
وكان الأمير سودون قَرْقمَاس المؤيّدي قصّ علَيَّ يوم السبت سادس عشري جمادى الأولى أنه رأى في المنام أن الحصار في مكان له سوران، قال:"فهزَزْت الذي يليني لأرميه، فقال: إرْمِ الذي وراءك فهو الأهم، فقلت: بل أرْميك ثم أرْميه" فكان تأويل ذلك أنه كان منزله وقت حصار هذا الحصن قربَ البرج الأخير الذي فيه الباب، فأشْرَفَ مِن هناك بعض الفرنج ضحى الخميس سادس عشر الشهر (١) وقالوا: "قد كان قصدكم إلى رودس فنريد أن تذهبوا إليها قبل أن تُنْهك أنفسكم وأموالكم، فإن أخذتموها فنحن في قبضتكم، أو أعطونا سلورة حتى نذهب إليهم، فإنْ رضوا بتسليمنا لكم فعلْنا" فلم يردّ الأمير لهم جوابا إلّا رَمْى المكحلة والمنجنيق. وكان تهيّأ في ذلك الوقت ونادى مناديه - وهم يستمعون - بالمنع من كلامهم إلّا بإذنه، وكنا وجدْناهم قد طمُّوا بعض آبارهم ووضعوا في الجميع ترابًا وأغصان الدفلى وورقها، فأنتنَت المياه وقَلّتْ، فذهب جماعة من المسلمين إلى برّ التركية للاستسقاء فوجدوا هناك ثلاثة رجال فأتوا بهم في عصر هذا اليوم، فسألهم الأمير عن أمْرِهم فقالوا إنهم هربوا من بلاد التركمان قاصدين إلى القشتيل فضربهم، فأصرّوا على ذلك وقالوا إنهم مماليكٌ لبعض الروم، وسمَّى كُل مالِكَه.
وكان قد أصيب خَلق - ممن دنا إلى الحصن بالحجارة والنَّبْل وضاع منَّا في أحجارهم سهام كثيرة فَمنَع الأميرُ الدّنُو إليهم وجَعَل جلّ القتال على المدفع والمنجنيق، ثم أمطرت علينا