وخرج العسكر إلى الريدانية في الثاني من ذى الحجة، ثم ساروا إلى جهة الشام فلما انتهوا إلى منزلة السعيدية (١) في رابع عشر ذي الحجة وجدوا العسكر الشامى قد وصل وكانوا خرجوا من رمضان وهلمّ جرا، والتقى الجمعان ليلًا بغير تعبئة، فأَشار قرا يوسف على الشاميين بالمبيت على العسكر المصرى فدهمهم ما لم يكن في حسابهم، فانهزموا لا يلوى أحدٌ على أحدٍ إلى أَن انتهوا إلى القاهرة.
وأما النَّاصر فأَركبه سودون طاز وغيره الهجن وشقَّ به البريَّة إلى أَن انتهى به إلى القلعة بعد معاناةٍ عظيمةٍ ومقاساةِ جهد بعد يأْسٍ شديد، واجتمع إليه من انهزم وتصافّوا وتهيّئوا للقتال، ووقع في القاهرة هرج عظيم، وغُلِقَتْ أَبوابُ البلد والدروب وانقطعت المعايش، وتباطأَ الشاميون بسبب النَّهب فأَخذوا من العسكر المصرى ما لا يدخل تحت الوصف من الأَقمشة والجمال والخيول، ووقع صُرق في قبضةِ نائِب الشام فضرب عنقَه صبرًا.
ولما عزموا في الرَّحيل إلى جهة القاهرة استعجل جكم فالتمس منهم أَن يبايعوه بالسلطنة قبل دخول القاهرة، فأَنِفوا من ذلك واختلفت الكلمة، وكانوا قد حاصروا القلعة وكادوا أن يملكوا البلد، فراسلوا الناصرَ، فاقتضى رأْىُ شيخ ومَن وافقه الرجوعَ إلى الشام، واقتضى رأْىُ يشبك ومن وافقه الدخول إلى مصر خفية، واقتضى رأْى كراى ويلبغا الناصري وسودون الحمزاوى الدخولَ تحتَ طاعة الناصر فوصلوا إليه، وتفرَّق بقيةُ الناس فدخل أَكثرهم القاهرة خفية، ورجع جكم - لمّا رآى الخذلان - إلى جهة الشام حمية بمن تبعه، واستمرّت الهزيمةُ على الشاميين فتفرّقوا.
ثم اجتمع جكم وشيخ وقرا يوسف ومن بقى معهم ببلبيس وتوجّهوا إلى جهة الشام، وأَرسل الناصرُ خلفهم جريدةً فوصلوا إلى بلبيس ورجعوا ولم يظفروا بطائل، ونُودى في
(١) هي أول مركز البريد إلى دمياط وغزة، وقد أنشأها الملك الظاهر بيبرس في سنة ٦٦٥ راجع صبح الأعشى ١٤/ ٣٧٧، وهي منسوبة لولده السعيد محمد، وقد ذكر محمد رمزي في تعليقاته على النجوم الزاهرة ٨/ ٢٥٢ حاشية رقم ١ أنه تبين له أنها اندثرت وأن مكانها اليوم عزبة الشيخ مطر.