وهذه الفطرة راسخة في أعماقهم ووجدانهم ومشاعرهم، فهم وإن غفلوا عن هذه الفطرة في حال السراء فلا شك أنهم يلوذون إليها في حال الضراء. قال تعالى: ﴿وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ﴾ [الإسراء: ٦٧].
والاستدلال بالفطرة هو المنهج القرآني، وقد حاد عنه المتكلمون حيث يهتمون بإثبات الصانع بأدلة جدلية وآراء منطقية، وأدلتهم الجدلية هي "دون ما شهدت به الفطرة الإنسانية من احتياج ذاته إلى مدبر هو منتهى مطلب الحاجات، فيرغب إليه ولا يرغب عنه، ويستغني به ولا يستغني عنه، ويتوجه إليه ولا يعرض عنه، ويتضرع إليه في الشدائد والمهمات" وذلك لأن الإنسان يعرف احتياج نفسه وافتقارها أكثر من معرفته احتياج الممكن إلى الواجب والحادث إلى المحدث.
وهذه الطريقة هي سنّة الله وطريقته في كتابه فإنه يحتج عليهم بحاجتهم وافتقارهم إليه. قال تعالى: ﴿أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ﴾ [النمل: ٦٢]، ﴿قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ﴾ [الأنعام: ٦٣].
والاستدلال الأحسن والموصل إلى المعرفة هو الاستشهاد بأفعال الله تعالى عليه وأنه لا شهادة للفعل إلا من حيث احتياج الفطرة واضطرار الخلقة، فحيثما كان الاضطرار والعجز أشد، كان اليقين أوفر وآكد: ﴿وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ﴾ [الإسراء: ٦٧]، ﴿أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ﴾ [النمل: ٦٢].
والمعارف التي تحصل من تعريفات أحوال الاضطرار أشد رسوخًا في القلب من المعارف التي هي نتائج الأفكار في حال الاختيار (١).
(١) انظر ما نقله ابن تيمية في درء تعارض العقل: ٧/ ٣٩٧ - ٤٠٣ عن كتاب نهاية الإقدام للشهرستاني ص: ١٢٤، وانظر كتاب التوحيد وإخلاص العمل: ١٧١ - ١٧٢، والرياض الناضرة ص: ٢٥٢.