للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الهرويُّ حينئذٍ: "هل ورد النصّ على أَن المغرب لا يقصر في السفر؟ "، فقال: "نعم، جاءَ ذلك من حديث جابر في كتاب الفردوس لأَبي الليث السمرقندي"، فلما انفصلوا روجع "الفردوس" (١) لأَبي الليث فلم يوجد فيه ذلك، فقيل له في ذلك، فقال: "للسمرقندى لهذا الكتاب ثلاث نسخ: كُبرى، ووُسطى، وصُغرى؛ وهذا الحديثُ في الكبرى، ولم تدخل الكبرى هذه البلاد"، فاستشعروا كذبه مِن يومئذ.

وأَنزله السلطان دارًا حسنةً بالقاهرة ورتَّب له رواتب جميلة، وهاداه أَهْلُ الدولة فأَكثروا من فاخر الثياب وغيرها، فلمّا كان الخميس ثامن عشر ربيع الآخر أَحضر المؤيدُ الهرويَّ المذكورَ وأَمَرَ القضاةَ الأَربعةَ ومشايخَ الفنون من العلماءِ بالحضور، وكان مجلسًا حافلًا بالمنظرة التي داخل الحوش السلطاني، فكان أَوّل شيء سئل عنه الهرويّ: "على مَن سمع صحيح البخاري؟ " فاختلق في الحال إِسنادًا إِلى أَبي الوقت زعم أَن أَباه حدّث به عن شيخٍ يُقال له: "أَحمد بن عبد الكريم البوشنجي" عاش مائةً وعشرين سنة، عن آخر يقال له "أَبو الفتح الهروى" عاش أَيضا مائة وعشرين سنة عن أَبي الوقت، فقال له كاتبه (٢) "أَولادنا يروون الصحيح (٣) إِلى أَبى الوقت بمثل هذا العدد برجالٍ أَشهر من هؤلاء"، وكان المذكور قد ضبط عنه الرجالة أَوّل ما قدم بيت المقدس - منهم صاحبنا الحافظ جمال الدين (٤) محمد بن موسى المراكشي ثم المكى - أَنَّه يروى "الصحيح"


= بذلك منه تشويش فأرادوا إبعاده عنه، ثم أشاعوا عنه عند السلطان أنه قد ادعى أنه يحفظ إثنى عشر ألف حديث ويحفظ صحيح مسلم بأسانيده، وطلبوا من السلطان أن يعمل فيه وقتا ويجيء مشايخ القاهرة كلهم [يناقشون] معه علم الحديث وغيره، فلما عمل الوقت حضر هو وحضر معه الشيخ همام الدين العجمي - شيخ الجمالية - فوقع منهم أبحاث كثيرة وكلام كثير أدى ذلك إلى أن سفه الشيخ همام الدين على القاضي جلال الدين البلقيني ووقع منهم كلام شوش حتى سمع من بعضهم. أنه ينسب الشيخ همام الدين إلى الكفر، فلم يحصل في ذلك المجلس طائل، وكان هذا سببًا لتأكيد العداوة بينهم، ثم لما نزلوا كتبوا محضرا وذكروا فيه ما جرى بينهم مما فيه نسبة التكفير إلى همام الدين والتنقيص في حق الهروى، فبلغ ذلك السلطان فاغتاظ عليهم وأمر لكاتب السر ناصر الدين البارزي أن يمشى بينهم في الصلح، فنزل البارزي وذهب إلى همام الدين وأخذ الهروى معه وذهب معهما إلى بيت القاضي جلال الدين البلقيني وأصلح بينهم حتى انقطع هذا الشر وسكنت الفتن؛ انتهى كلامه".
(١) في هـ "البستان" وفوقها كلمة "كذا".
(٢) أي ابن حجر نفسه.
(٣) يعنى بذلك صحيح البخاري.
(٤) هو محمد بن موسى بن علي بن عبد الصمد المراكشي الأصل، ولد سنة ٧٨٩ هـ بمكة وأخذ عن كثير من شيوخها وكان كثير الرحلة في طلب العلم حتى إنه ترجم لشيوخ رحلته في مجلدة، وكانت وفاته سنة ٨٢٣.