فلما كان في رمضان قرئ البخارى بالقلعة على العادة، فحضر الهروى وقد اختلق لنفسه إسنْادًا ليقرأَ عليه به صحيح البخارى، وأَرسل إلى القارئ - وهو شمس الدين الجيتي - فتناوله منه وهو من أَهل الفن فعرف فساده فاقتضى رأْيه أَن جامله، فلما ابتدأَ بالقراءَة قال بعد أَن بسمل وحمدل وصلى ودعا وبالسند إلى البخارى، فاستحسن منه ذلك وخفى على الهروى قصده، وظن أَنه نسى الورقة، وتمادى الحضور، والسلطان تارةً يحضر وتارةً لا يحضر، إلى أَن افتقد القاضي الحنبلي فسأل عن سبب تأْخيره فعرّفه كاتب السر أَنه يزدرى الهروى ويسلبه عن العلم ولا سيما الحديث، فأذن السلطان للبلقيني في حضور مجلس الحديث فحضر (١) وجلس فما أَظنه جلس تحته بل ولا فوقه، ويمكن أَن يكون جلس من جانب السلطان الآخر بجانب الهروى، فلما بلغ ذلك القاضي الحنبلي حضر أَيضا وتجاذبا البحث، وحضر مع البلقيني كثيرٌ من أَقاربه ومحبّيه، فصار يركب في موكبٍ أَعظم من الهروى، وتحامى كثيرٌ من النواب الركوبَ مع الهروى خوفا من البلقيني ومما يقاسونه من السب الصريح من أَتباعه، فتقدم الهروى إلى النواب والموقعين بأن من لم يركب معه فهو ممنوع، فتحامى كثير من النواب النيابة عنه وأَصرّ آخرون، فوقع لواحد منهم - يقال له عز الدين محمد بن عبد السلام المنوفى - بحث مع البلقيني، فسطا عليه وسأل المالكي أَن يحكم فيه، فاستدعى به إِلى بيته وحكم بتعزيره فعُزّر ومُنع من الحكم؛ ثم وقع الآخر منهم - يقال له شهاب الدين الشيرجي - فأوسل إليه البلقيني يطلبه إلى بيته فامتنع منه واعتصم بالهروى، ثم حضر الخَتْم فلم يحضر البلقيني، وخُلع على الهروى وعلى بقية القضاة، فامتنع الديرى من لبس خلعته لكونها دون خلعة الهروى فاستُرْضِيَ فرضى.
فلما كان في التاسع عشر من ذى الحجة حضر السلطان في خاصتة في جامعه بباب زويلة واجتمع عنده القضاة فتناقش كل من القاضيين: الهروى والديري، وخرجا عن الحد في السباب والفحش في القول، ثم سَكَّن السلطانُ ما بينهما فسكنا.
وكان السبب في ذلك أَنهما اجتمعا للسلام على السلطان بعد رجوعه من الوجه البحرى، فتباحثا
(١) العبارة من هنا حتى قوله "من جانب السلطان الآخر"، في السطر التالي، غير واردة في هـ.