للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

بالقلعة ووعك (١) في أثناء السنة قَدْر شهرٍ، ثم عُوفي ثمّ انتكس في أوائل شوال، وأصابه السّلّ فصار ينقص كلّ يوم، ثم انقطعَتْ عنه شهوةُ الأكل وخرج إلى النزهة في الربيع وهو بتلك الحال، فما رجع إلّا وهو تعب لما به، ثم طرأ عليه الإسهال واستحكم به السّل، وهو مع ذلك يحضر الموكب إلى أن صَلَّى صلاة العيد، ونزل إلى بيته بالرميلة فضَحَّى، ورجع واستمرّ إلى أن مات، ولم يتهيّأ له أنْ يوصى، وخَلَّف بنتين وثلاث نسوة ووالديه، وكان صَيّنا لكثرة من يعاشره، ويلازم الشَافعية، وكان كثير البشر والبر، قليل الأذى، كثير الإنكار على مالا يليق بالشرع، إلا أنه كان منجمعا عن الكلام مع والده، وكان يكظم غيظه إلى أن قدرت وفاته، فمات شهيدًا بالبطن. ويقال إنّه سحر فمرض من ذلك السحر، ووجد السحر والساحر، فمنعهم أبوه من الاعتماد على ذلك، ومنهم من يزعم أن سقى، ولم يثبت شيء من ذلك، ودفن بقرب القلعة بالتربة التي أنشأها قانباي الجركسي لولده محمد، وكان من أقرانه، وكانت سيرة الآخر مشكورة، ومات وله دون الثلاثين (٢).


(١) أشار أبو المحاسن في النجوم الزاهرة جـ ١٥ ص ٥٠٣ - وقد عرفه شخصيا إلى وصفه ووصف مرضه فقال إنه "كان يشارك في ملاعيب كثيرة لولا سمن فيه اعتراه وكره هو ذلك، وأخذ يتداوى في منع السمن بأشياء كثيرة ربما كان بعضها سببا (لموته) مثل شرب الخل على الريق، ومنع أكل الخبز سنين، وكثرة دخول الحمام حتى أن غالب جلوسنا كان معه في الخلوة في مسلخ الحمام الذي ابتناه بطبقة الغور من القلعة وبداخله في الحرارة، ولا يبعد أن يكون السل هو نتيجة تعرضه للحرارة الشديدة ثم الهواء البارد".
(٢) علق البقاعي على هذا بقوله: "كان الناصر محمد بن الظاهر شكلا حسنا وذاتا لطيفة مع أخلاق دمثة وفضيلة تامة، وعقل وافر، وبشاشة مفرحة، وتواضع لطيف لاسيما مع طلبة العلم، وذكاء مفرط، وحافظة معتدلة، سمعت شيخنا المصنف (يعني بذلك ابن حجر) يتعجب من اجتماعها له. وكانت له بديهة جيدة … حدثنا أن شخصا قال إنه يريد مدح الصاحب كريم الدين بن كاتب المناخ قال، فقالت له اجعل القصيدة ميمية واجعل مخلصها:
وافتخرت مصر على أهلها … بطلعة الصاحب عبد الكريم
وكان ذلك بحضرة من كان حاضرا مجلسه، وحدثنا بما قال، قال جاءنا مرة إلى الربيع شخص ثقيل فنشبت به السن الجماعة ينكتون عليه ويخجلونه، فقال أحدهم "هو جبل المقطم" فقلت أنا: "لا، بل جبل خرا" إلى غير ذلك من البدائه الحسنة الرائقة. وكان يشارك في غالب الفنون. الفقه والأصلين والنحو والحديث والتاريخ، ويذاكر بشيء كثير من ذلك لاسيما الحديث والشعر، وكان ملازمًا لكاتبه، يتردد إليه من سلطنة أبيه إلى الغور شيخنا قاضي القضاة سعد الدين بن الديري للفقه، وشيخنا الحافظ ابن حجر للحديث، والشيخ محيي الدين الكافيجي للأدب والمعقولات، هذا مع الشجاعة والفروسية وإدمان العلاج والرمي وغيره من آلات الحرب، وكان فيه سمن فلما ولى أبوه الملك زاد (السمن) به فخشى من إفراط، فتداوى له حتى زال، وترك أكل الخبز من أجله. واختلف الناس في علته، فمنهم من يقول من التداوي، ويذكر أنه أدمن شرب الخل على الريق. وأنه أكل الزجاج البكر، وآخر يقول "مسحور" وآخر يقول "مسموم". واستمر عليلا من أواخر شعبان إلى أن توفي في ثاني عشري ذي الحجة من السنة. وكانت جنازته عظيمة الشأن لا يحصى حاضروها وكثر الباكون بها. ولقد كان السلطان يبكي عليه. ".