ثم لما استقرت قدمه في المملكة عمّر جامع برصة ورخَّمه من ظاهره وباطنه، وجعل الماءَ في سطحه ينزل منه فيجرى في عدة أَماكن، وعمّر المارستان؛ وأَنشأَ نحو ثلاثمائة غراب وملأَها بالأَسلحة والأَزودة، فصارت - بحيث إذا أَراد أَن يركبها - خرجت في يومها.
ورتب بالساحل من يعمل الأَزودة دائما بحيث لا يتعذَّر عليه - إذا أَراد الغزو - شيء. واشتهر بالجهاد في الكفار حتى بَعُد صيته، وكاتبه الظاهر وهادئه وأَرسل إليه أَميرًا بعد أمير، ولم يبقَ أَحد من الملوك حتى كاتبه وهاداه، حتى كان الظاهر يخاف من عائلته ويقول:"لا أَخاف من اللنك فإِن كل أَحد يساعدنى عليه وإنما أَخاف من ابن عثمان"، وسمعت ابن خلدون مرارًا يقول:"ما يُخشى على مُلك مصر إلَّا من ابن عثمان".
ولما مات الملك الظاهر كثرت الأَراجيف بأَنه سيقدم لأَخذ مصر، ثم قدِّر أَن اللنك لما دخل الشام ورجع تعرّض لمملكة ابن عثمان فلم يزل يكايده حتى طرقه وأَسَره، ومات في أَسْره. قاتله الله.
وسأَذكر شيئًا من أخباره وسيرته في سنة وفاته إن شاءَ الله تعالى.
* * *
وفيها استقر يلبغا السالمي ناظرًا على سعيد السعداء فقطع منها جماعةً من الأَغنياء، وعمل فيها بشرط الواقف وشدّد في ذلك حتى قال فيه الشاعر:
يا أَهل خانقة الصلاح أَراكمو (١) … ما بين شاكٍ للزمان وسالم
يكفيكموا ما قد أَكلْتُم باطلًا … أَوقافها وخرجتموا "بالسالمي"
ثم جمع السالمي القضاةَ والمشايخ وقرأَ عليهم شرط الواقف وسأَلهم عن الحكم الشرعي في ذلك فطال بينهم النزاع، فتكلَّم زين الدين القمنى - وكان ممن أُخرج منها - بكلامٍ كثير، ثم تكلم شهاب الدين العبادى - موقع الحكم وأَحد فضلاء الحنفية - فبسط لسانه في السالمي، وافترق المجلس.
فأَشاع العبادي أَن السالميّ قال لمن شفع عنده في بعض من أَخرجه:"لو جاءَ جبريل وميكائيل فشفعا عندي في العبادي ما قبلتهما"، وأَكثر من الشناعة عليه.