للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

ضَرُورَةً أَوْ نَظَرًا، كَاشِفٌ عَمَّا لَا يُدْرِكُهُ مِنَ الْأَحْكَامِ شَرْعًا كَالْعِبَادَاتِ وَنَحْوِهَا، وَلَيْسَ قَوْلُهُمْ: إِنَّ الْعَقْلَ لَا يُدْرِكُ الْحَسَنَ فِي الْعِبَادَاتِ وَنَحْوِهَا مُنَافِيًا لِقَوْلِهِمْ: إِنَّهَا حَسَنَةٌ فِي الْعَقْلِ، لِأَنَّ مُرَادَهُمْ بِحُسْنِهَا فِيهِ أَنَّهُ لَوْ كَانَتْ لَهُ قُوَّةٌ عَلَى إِدْرَاكِ حَقَائِقِهَا تَامَّةٌ، لَأَدْرَكَهَا حَسَنَةً، وَمَدْرَكُهُمْ فِي ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حَكِيمٌ، فَيَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ عَقْلًا إِهْمَالُ الْمَصَالِحِ أَنْ لَا يَأْمُرَ بِهَا، وَيُثِيبَ عَلَيْهَا، وَإِهْمَالُ الْمَفَاسِدِ أَنْ لَا يَنْهَى عَنْهَا وَيُعَاقِبَ عَلَيْهَا، وَمَا اسْتَحَالَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَجَبَ أَنْ يَسْتَحِيلَ عَلَيْهِ دَائِمًا فِي كُلِّ وَقْتٍ، فَلِذَلِكَ قَالُوا: إِنَّ مَا ثَبَتَ بَعْدَ الشَّرْعِ، فَهُوَ ثَابِتٌ قَبْلَهُ، وَإِلَّا لَكَانَ الْمُسْتَحِيلُ عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جَائِزًا عَلَيْهِ فِي كُلِّ وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ، وَهُوَ مُحَالٌ. غَايَةُ مَا فِي الْبَابِ أَنَّ الْعَقْلَ أَدْرَكَ الْحَسَنَ وَالْقُبْحَ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ دُونَ بَعْضٍ، فَلَمَّا وَرَدَ الشَّرْعُ، كَانَ مُؤَكِّدًا لِحُكْمِ الْعَقْلِ فِيمَا أَدْرَكَهُ، كَاشِفًا لَهُ عَمَّا لَمْ يُدْرِكْهُ.

أَمَّا الْجُمْهُورُ، فَقَالُوا: الشَّرْعُ مُنْشِئُ الْأَحْكَامِ، وَمُخْتَرِعٌ لَهَا وَلَمْ يَكُنْ مِنْهَا قَبْلَ الشَّرْعِ شَيْءٌ، وَلَا يَسْتَقِلُّ الْعَقْلُ بِإِدْرَاكِ شَيْءٍ مِنْهَا جَزْمًا بَلْ جَوَازًا، وَهَذَا هُوَ مَحَزُّ الْخِلَافِ وَغَايَتُهُ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ وَهُوَ أَنَّ إِدْرَاكَ الْعَقْلِ لِإِثَابَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لِلطَّائِعِ وَعِقَابِهِ لِلْعَاصِي، هَلْ هُوَ إِدْرَاكٌ جَازِمٌ قَاطِعٌ كَمَا يُدْرِكُ أَنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ؟ أَوْ إِدْرَاكٌ مُحْتَمَلٌ عَلَى جِهَةِ الْجَوَازِ كَمَا يُدْرِكُ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَجُوزُ أَنْ يُوقِعَ الْمَطَرَ غَدًا وَأَنْ لَا يُوقِعَهُ؟ وَلَيْسَ مَحَلُّ الْخِلَافِ مَا يَتَوَهَّمُهُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ مِنْ أَنَّ الْعَقْلَ هُوَ الْمُوجِبُ وَالْمُحَرِّمُ، بَلِ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هُوَ الْمُوجِبُ وَالْمُحَرِّمُ، وَالْعَقْلُ يُدْرِكُ كَوْنَهُ مُوجِبًا

<<  <  ج: ص:  >  >>