المجتمع الضئيل من النمل، وإلى هذه النملة التي تقوم على سياسته، وتدبير أمره..
بل إن سليمان نفسه، لينصرف عن حشوده تلك، حين تلقاه النملة هذا اللقاء المثير، وإذا هو منها بين يدى قدرة القدير، وحكمة الحكيم، فلا يملك إلا أن يتوجه بكيانه كله إلى الله، ضارعا بالحمد والشكر:«رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ» .. وليس ببعيد أن تكون النملة- فيما رأى سليمان- ممن عدّهم من عباد الله الصالحين، الذين دعا الله أن يلحقه بهم، ويدخله فى زمرتهم! والهدهد، وقصته مع سليمان، لا تقل روعة وعجبا من قصة النملة، فقد جاء إلى سليمان، وهو فى أبّهة ملكه، وعظمة سلطانه، وبين يديه ما سخّر الله له من الجن والإنس والطير- جاءه وهو فى هذا السلطان العظيم، ليلقاه بهذا الخبر، وليلقى به إليه فى صورة من هو أكثر منه علما، وأكبر سلطانا، وإن كان- فيما يظهر منه- ضئيل الشأن، باهت القدر، فيقول لسليمان:«أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ» !! هكذا المتمكّن من نفسه الواثق من وجوده، يقول قولة الحق، فى غير خوف أو تردد! وكأن الهدهد إنما يثأر بهذا لنفسه، وللجماعة المسخرة لسليمان، حين توعّد الهدهد على ملأ منها بقوله:«لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ» .. فجاءه بهذا الجواب القوىّ المبين! ففى هذه النملة التي تمثّل الدوابّ على الأرض، وهذا الهدهد الذي يمثل ما طار بجناحيه فى السماء، شاهدان يشهدان بأن هذه الكائنات التي تعيش معنا على هذا الكوكب الأرضى، من دواب الأرض، وطير السماء، هى أمم مثل الأمة الإنسانية، فى وحدة التكوين والتنظيم، والمشاعر، والمدارك،