الليل أو النهار.. يستخبرون ويخبرون، ويقولون ويقال لهم، غير مقدّرين حاجة الرسول- كإنسان- إلى أن يسكن إلى بيت، أو يفىء إلى راحة.. وكان من هذا أن تولىّ الله سبحانه وتعالى التخفيف عن النبىّ من هذا الحمل الذي ينوء به، ولا يجد من نفسه القدرة على أن يواجه أحدا بكلمة تردّه عن بيته، أو تنزعه من مجلسه.. وفى هذا يقول الله تعالى:«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ»(٥٣: الأحزاب) .
ويقول سبحانه فيما أدب به المؤمنين فى حديثهم مع الرسول:«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ» .. لقد قالتها السماء، ولم يقلها الرسول الكريم.. هكذا كان الرسول مع الناس- فى خاصة نفسه- يحتمل الجهل والسفه من الجاهلين والسفهاء.. وعلى هذا يفهم الحديث الشريف:
«إنا لنهشّ فى وجوه قوم وقلوبنا تلعنهم» ففى هذا الأدب النبوي دعوة إلى مداراة الناس، وعدم مجابهتهم بما نكره منهم، فإن فى هذا تأليفا بين القلوب وتواصلا بين الناس، ولو أننا لقينا الناس أو لقينا الناس بما نكره منهم وما يكرهون منّا لما التقى إنسان بإنسان إلا على عداوة وبغضاء، ثم مشاحنة وخصام..
وفرق بين هذا الموقف وموقف الملق والريا، الذي يتخذ منه صاحبه وسيلة للخداع والتمويه، بتزييف الحقائق، وطمس معالم الأمور.. أما هذا الموقف فلا يعدو أن يكون صورة كريمة من صور دفع السيئة بالحسنة، مع ما يصحب ذلك من كظم الغيظ، ودفن الألم.. وأما اللعنة التي يشير إليها الرسول الكريم فى قوله:«وقلوبنا تلعنهم» فهى كناية عن هذا الغيظ المكظوم،