وسادسا: إذ يخلو الموقف إلا من أصحاب النار فى النار، وأهل الجنة فى الجنة، وإذ يصير أصحاب النار إلى هذا اليأس القاتل، بعد أن يخلى رجال الأعراف مواقفهم التي كانوا فيها- إذ ذاك لا يجد أصحاب النار إلا أهل الجنة، يشخصون إليهم بأبصارهم ويمدّون إليهم أيديهم، طالبين النجدة والغوث:«وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ» ! ..
هكذا تبدلت بهم الحال، وقد كانوا من قبل فى دنياهم بأنفون أن ينظروا إلى الناس إلا من آفاق عالية، حتى لكأنهم آلهة، والناس عبيد أذلاء لهم..
وها هم أولاء اليوم، يمدون أيديهم فى ذلة وانكسار إلى هؤلاء الذين كانوا عبيدا أو أشبه بالعبيد لهم، يطلبون شيئا من تلك الموائد الحافلة التي بين أيديهم.. «أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله!» ويجيئهم الجواب مفحما مخرسا موئسا..
«إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ..»
ولا يكاد هذا الجواب يبلغ أسماعهم، ويملأ قلوبهم يأسا، وهما وكمدا..
حتى يصادق على هذا الجواب من عند الله، فتجىء كلمات الله مكملة لهذا الحكم، مصدقة عليه، شارحة لأسبابه:«الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ» ..
وهكذا يدل الستار على هذا المشهد العظيم من مشاهد القيامة.. لقد انتهى الحساب وفضّت المحاكمة، ووقع الجزاء.. وصار أصحاب النار إلى دارهم التي أعدت لهم، يلقون فيها الويل والبلاء، وصار أهل الجنة إلى دارهم ينعمون فيها، بما أعد الله لهم من نعيم ورضوان مقيم..
والمشاهد لهذه المشاهد من خارج، يرى فى كلمات الله التي صورتها، ما لا يراه على مسرح الحياة، ولو أتيح لهذه المشاهد من أبرع المخرجين من يخرجها ويتخير لها كل ما فى الحياة من إمكانيات.. فى الممثلين وأدوات التمثيل!