عدّ ذلك ذنبا، عفا الله عنه.. وهو أمر لو وقع من غير النبىّ لما كان موضعا لمؤاخذة أو لوم.. وفى هذا يقول الله تعالى:«عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ» . (٤٣: التوبة) وفى قوله تعالى: «مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ» إشارة إلى ما كان من لطف الله بالمؤمنين فى غزوة تبوك، وأن شدّة هذه الغزوة، والظروف التي دعى فيها المسلمون إلى الجهاد قد عرضت بعض المؤمنين لامتحان عسر، ضاقت به صدورهم، وتلجلجت معه نياتهم، واضطربت عزائمهم، ولكنّ الله سبحانه ربط على قلوبهم، وأمسك بهم على طريق الحقّ، فمضوا على طريق الجهاد.
روى عن الحسن البصري: «أن العشرة من المسلمين فى تلك الغزوة كانوا يخرجون على بعير واحد يعتقبونه بينهم، يركب الرجل ساعة، ثم ينزل فيركب غيره.. وكان الشعير المسوّس والنمر المدوّد، والإهالة السّنخة (أي الزيت المتغير طعمه وريحه) طعامهم.. وكان النفر منهم يخرجون ما معهم من النميرات بينهم، فإذا بلغ الجوع من أحدهم أخذ النمرة فلاكها (أي أدارها فى فمه) حتى يجد طعمها، ثم يعطيها صاحبه، فيمصّها، ثم يشرب عليها جرعة ماء، حتى تأنى على آخرهم، فلا يبقى من النمرة إلا النّواة!!.»
وفى قوله تعالى:«إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ» ما يكشف عن فضل الله على النبىّ ومن تبعه من المهاجرين والأنصار.. وأنه سبحانه، لرأفته بهم، ورحمته لهم، قد أخذ بيد من كاد يسقط منهم، وينزل عن هذا المنزل الكريم الذي أحلّ الله فيه المهاجرين والأنصار، واختصّهم به، فهم أبدا فى ظلال رأفته ورحمته.. وحسبهم بهذا سلاما وأمنا، وحسبهم به شرفا وفضلا.