ثم إنه لم يجىء الأمر على سبيل الوجوب والإلزام، لأن عاطفة الأم فى غنى عن أن يعطفها على وليدها أمر، وإنها لن تتخلّى عن هذا الواجب الطبيعي إلا إذا كانت تحت ظروف أكبر من عاطفتها، فكان من تدبير الحكيم العليم أن جعل ذلك حقّا لها فى الجانب الخبرى من الحكم، وجعله أمرا متوجها إلى الآباء فى الجانب الأمرى منه!! وقوله تعالى:«حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ» بيان للمدة اللازمة لفطام الصبىّ، وليس هذا التحديد على سبيل الوجوب، بل هو محكوم بتقدير حال الرضيع وحاجته، وذلك ما يشير إليه قوله تعالى:
لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ» .. وفائدة هذا التحديد ليضمن للأم حقّا فى مدة الرضاع وهى سنتان، وقد لا تكون كلها لإرضاع الوليد، ولكن لمعالجة حاله بعد فطامه، وأخذه بالحياة المناسبة له بعد الفطام، وجعلها عادة له، حتى إذا بعد عن أمّه كان من الممكن تدبير شئون حياته.
قوله تعالى:«وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ» حكم على الآباء بالنفقة الواجبة للأم المرضع، فى مدة إرضاعها، وهذه النفقة هى مما يكفل للأم الحياة المناسبة من مسكن ومطعم وملبس.. على اختلاف فى النوع والقدر، حسب يسر الوالد وإعساره.
وقوله تعالى:«لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَها» رفع للحرج عن الآباء فى النفقة الواجبة للأم، فلا يتكلف لها الأب ما لا يطيق، ولا يحمل منها على ما يكره.. بل يطلب منه ما يقدر عليه، حسب يسره وإعساره، وفى هذا يقول الله تعالى:«لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً»(٧: الطلاق)