فمن بين الفرث، وهو «الروث» ، وبين الدم- يجرى اللبن الخالص، السائغ، دون أن تعلق به شائبة، أو يمسّه سوء، يغيّر لونه أو طعمه، أو ريحه.. ومن تلك الأخلاط التي تجمع من الأطعمة التي يتناولها الحيوان، وتتجمع فى كرشه ومعدته- من تلك الأخلاط يخرج الفرث، واللبن، والدّم.. فيأخذ الفرث سبيله إلى العمى، ثم إلى خارج الجسد، ويأخذ اللبن مجراه إلى الضرع، ويأخذ الدم مساره فى العروق! دون أن يبغى بعضها على بعض، أو يختلط بعضها ببعض، حتى لكان كلّا منها وارد من عالم لا يتصل بالعالمين الآخرين، بأية صلة.. فتبارك الله رب العالمين..!!
وفى تقديم قوله تعالى:«مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ» على قوله سبحانه «لَبَناً» الذي هو مطلوب للفعل «نسقيكم» - فى هذا إلفات إلى الفرث والدم وما يخرج من بينهما، وهو اللبن الخالص السائغ للشاربين.. فإنه قبل أن يقع لنظر الناظر هذا اللبن، يلتقى نظره أولا بالفرث والدم، الذي لا يتصور أن يخرج منهما إلا ما يشاكلهما.. فإذا رأى بعد هذا أن ذلك اللبن الخالص السائغ يخرج من بين هذين الشيئين: الفرث والدم، عجب لذلك كلّ العجب، وحمله ذلك على أن يقف عند هذه الظاهرة وقوفا طويلا، يشهد فيها لمحات من قدرة الله، وعلمه، وحكمته.
قوله تعالى:«وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ» .. «ومن» من هنا للتبعيض.. أي ومن بعض ثمرات النخيل والأعناب تتخذون سكرا ورزقا حسنا.. وهو ما يؤخذ من التمر.. من خلّ، وما يتخذ من العنب.. من زبيب مثلا.. فليس كل ثمرات النخيل والأعناب، يتخذ، أي يصنع منها السكر، وغير السكر، وإنما يؤكل أكثره من غير صنعة، وقليله هو الذي يصنع من السّكر وغيره.. ولهذا عاد