(٢٦: المائدة) .. وهذا موت أدبى ومادىّ معا.. فقد عزلهم الله بهذا التّيه عن الحياة، وعن المجتمع البشرى كله، لا يدرون أين هم فى هذا القبر الكبير الذي أطبق عليهم، وسدّ دونهم منافذ الخروج منه! ثم تقول الآية الكريمة بعد هذا:«ثم أحياهم» أي قال لهم الله موتوا، فماتوا.. ثم أحياهم أي أخرجهم من هذا التيه، وبعثهم من هذا القبر المشتمل عليهم، بعد أن قضوا الأربعين سنة المحكوم عليهم بها.
وتقول الآية فى خاتمتها:«إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ» تنبيها لأولئك الغافلين عن نعم الله وأفضاله، ليقوموا بحق شكرها، بالإخبات لله والحمد له، ولكن أكثر الناس يجحدون بآيات الله ويكفرون بنعمه! وفى قوله تعالى:«وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ» تشنيع على بنى إسرائيل وإدانة لهم بأنهم استقبلوا نعم الله بالجحد والكفران.. كانوا فى قبضة فرعون أمواتا أو كالأموات فأحياهم الله، إذ خلصهم من عدوهم، ولكنهم كفروا النعمة وجحدوا المنّة فأماتهم الله بالتيه فى الصحراء أربعين سنة، ثم أحياهم إذ أخرجهم من هذا التّيه، فلم يكن منهم إلا الجحود والكفران.
هذا، ومورد الآية الكريمة هنا، أنها تمثل للمسلمين موقفا أشبه بالموقف الذي كانوا يقفونه يومئذ، وأنه إذا كان بنو إسرائيل قد مكروا بآيات الله وجحدوا فضله فليكن المسلمون على حذر من أن يضلوا كما ضل القوم، وأن يقعوا فيما وقعوا فيه! والآية الكريمة نزلت فى سورة البقرة التي كانت أول القرآن نزولا بعد الهجرة.. فهى تذكّر الرسول والمسلمين بأن قوما قبلهم قد خرجوا من ديارهم فرارا بأنفسهم من وجه الظلم والقهر والإذلال، كما خرج النبىّ