فهذا هو محصّل ما وقع فى نفس المؤمن من هذا الحديث الطويل، الذي تحدث به الكافر، صاحب الجنتين، المدلّ بجاهه وترائه.. إنه لم يستطع بحديثه هذا، وبما استعرض على الطبيعة من خيرات جنتيه، وما يؤمله فى الآخرة من جنات خير منهما- لم يستطع أن يغيّر من موقف صاحبه، أو يؤثر فى إيمانه شيئا.. فيلقاه صاحبه بما اعتاد أن يلقاه به، من إنكار عليه لهذا الضلال الذي هو غارق فيه، «أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا؟» .
وفى توجيه الخطاب إليه بصيغة الماضي.. هكذا:«أَكَفَرْتَ» بدلا من صيغة الحاضر: «أتكفر» إشارة إلى أن هذا المنكر الذي هو فيه، ليس أمرا مستحدثا عنده، بل هو داء قديم، سكن فى كيانه، واستقر بين مسرى الدم من عروقه، لا يغيره شىء. ولو كان ذلك مما يمكن أن يتغيّر لكان له فى هذا الموقف الذي وقف من جنتيه، ورأى فيهما ما رأى من آيات الله وآلائه- ما يخفق له قلبه، وترقّ به مشاعره.
وفى هذه الصورة التي رسمها المؤمن لصاحبه، وأراه فيها وجوده كله، منذ كان ترابا، ثم كان نطفة، ثم كان علقة، فجنينا، فوليدا، فطفلا، فرجلا مكتمل الرجولة كما هو الآن، يختال تيها وعجبا- فى هذه الصورة ينظر المؤمن إلى صاحبه، فيكره أن يكون على سمت هذه الصورة التي شوهها الكفر، ومسخها الضلال.. وفى سرعة خاطفة ينتزع نفسه من جنب صاحبه، ويعزل شخصه عنه.. ثم- وبسرعة خاطفة أيضا- يرسم لنفسه صورة ارتضاها، واطمأن إليها.. فيقول: