والفهم الذي نستربح له هنا، هو أن هذا الصوم عن الكلام إنما كان عبادة يتقرب بها زكريّا إلى الله، إزاء تلك النعمة التي أنعم الله بها عليه.. ثم هو إشارة إلى الناس الذين سيطلع عليهم زكريا بأن حدثا عجيبا سيحدث، وأنهم فى وجه معجزة، وشيكة الوقوع.. وهذا ما كان من موقف مريم حين ولدت عيسى، فقد أمرها الله سبحانه وتعالى، أن تلقى قومها صائمة عن الكلام يوما.. كما سيأتى فى هذه السورة وقد عرضنا لهذا الأمر فى سورة آل عمران..
وخامسا: فى قوله تعالى: «يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا» نداء من الله ليحيى الذي سيولد.. فهو مخاطب من الحق سبحانه وتعالى، وهو فى عالم الغيب، كما يخاطب أبوه زكريّا، وهو فى عالم الشهادة..
إن هذا الغائب الذي لم يوجد بعد، هو وهذا الحاضر الموجود، على سواء عند الله، ومع قدرة الله، وفى علم الله.. وكما يعقل الكائن الحىّ الرشيد العاقل، ما يخاطبه الله سبحانه وتعالى به، كذلك تعقل النطفة، أو ما ستتخلق منه النطفة..!!
وهكذا سيكون «يحيى» على هذه الصفة التي وصفه الحق سبحانه وتعالى بها، وندبه إليها، وهو أن يأخذ الكتاب- أي التوراة بقوة أي بجدّ، واجتهاد فى تحرّى أحكامها، والاستقامة على تلك الأحكام.. وأنه سيبلغ مبلغ الرشد والكمال، وهو فى سن الصبا.. «يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا» .. والحكم هنا، هو الحكمة التي يحكم بها فى الأمور التي تعرض له..