تعلم أنهم لا ينطقون.. وإذن فلا كذب من إبراهيم، وإنما هو الحق الصراح، فى أسلوب مجازى!! «فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ» .
أي إنه حين جابههم إبراهيم بهذا الجواب بهتوا، ووقع فى أنفسهم هذا القول الذي قاله، أنه حق، وأنهم على ضلال، وما كان لهم أن يعبدوا هذه الدّمى، وتلك الخشب المسندة.. إنها لحظة خاطفة أشرقت فيها أنفسهم بنور الحق، واستبان لهم على ضوء هذه اللمعة أنهم على ضلال، وأنهم قد ظلموا أنفسهم بهذا الضلال الذي هم فيه، ولو وجدت هذه الشرارة المنطلقة من أعماق فطرتهم، شيئا من العقل المستبصر، والبصيرة النافذة- لاشتعلت هذه الشرارة فى كيانهم، ولأضاءت عقولهم وقلوبهم، ولطردت هذا الظلام الكثيف المخيم عليهم.. ولكن ما أن كادت هذه الشرارة المضيئة تنطلق، حتى نفخ فيها الهوى، والضلال، فماتت فى مهدها، وخبت فى مكانها! «ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ.. لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ» ..
لقد صحّ وضع القوم فى الحياة، حين أوقفهم إبراهيم على أقدامهم، وأراهم من آلهتهم ما هى عليه من ذلّة وضعف واستسلام، فرأوا وجه الحق مشرقا مضيئا.. ولكن سرعان ما غلب عليهم ضلالهم، فعادوا إلى وضعهم الأول المنكوس، ونكسوا على رءوسهم، فرأوا الأشياء فى وضعها المقلوب، كما كانوا يرونها من قبل.. رأوا الحق باطلا، والباطل حقا.. وعادوا إلى إبراهيم يحاجّونه بهذا الضلال:«لَقَدْ عَلِمْتَ.. ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ؟»«قالَ: أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ. أَفَلا تَعْقِلُونَ» ؟