فالميراث الذي تتحدث عنه الآيات في هذه المواضع، كان ميراث ما في أيدى المصريين من خيرات مصر، التي سلط الله عليها آفات تحرمهم الانتفاع بها، على حين كان ينتفع بها بنو إسرائيل، إلى أن خرجوا من مصر.. وتلك آية من آيات الله، حيث تجتمع النعمة والنقمة في الشيء الواحد.. تتناوله يد، فيتحول فيها إلى نقمة، وتمسك به يد أخرى، فإذا هو نعمة! ولا يدفع هذا، ما وصفت به الأرض في قوله تعالى «الَّتِي بارَكْنا فِيها» إذ قد يقع في بعض الأفهام أن «البركة» تعنى أرضا مخصوصة، هى الأرض المقدسة.. وفي رأينا أنه إذا اجتمع للأرض المقدسة، القداسة والبركة، فإنه لا ينفى أن يشاركها غيرها بعض صفاتها، فقد وصف البيت الحرام بأنه مبارك وهدى للعالمين، كما يقول تعالى:«إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ»(٩٦: آل عمران) . ومصر بلد مبارك، لا شك في هذا.. فقد ربى في حجره، النبيان الكريمان موسى وعيسى عليهما السلام..
حتى إذ طلعت شمس الإسلام كان مصر البلد المبارك الذي سبق إلى الإسلام، وأمدّ بخيراته المسلمين، وأعزّ برجاله جيوش المجاهدين.. ثم كان بعد هذا حمى الإسلام وملاذه في الشدائد والمحن، كما كان- ولا يزال- الحفيظ الأمين على شريعته ولغته، حيث ينشر علوم الشريعة في آفاق الإسلام، ويفد إليه طلاب علوم الدين واللغة من كل قطر، فينهلون من المعارف، ثم يعودون إلى أقوامهم أساتذة معلمين، وهداة مرشدين..