«إن هودا» يدعوهم إلى الله، وإلى أن يستقيموا على طريقه المستقيم، وهو فى هذا الذي يدعوهم إليه، لا يريد إلّا الخير لهم، والنجاة لأنفسهم، من عذاب الله.. وليس له أجر على هذا، يقتضيه منهم، وإنما أجره على ربّه، الذي حمّله رسالته تلك.. إنه الطبيب الذي يكشف لهم عللهم وأدواءهم، ويقدّم لهم الدواء الذي إن قبلوه وتعاطوه، كان فيه شفاؤهم وسلامتهم.
وإن الداء المتمكن منهم، هو تكالبهم على الدنيا، واستعبادهم لزخارفها، دون أن يكون لهم نظر إلى ما وراء هذه الحياة..
«أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ» .؟
الرّيع: المكان المرتفع، وواحده ربعة.
فهذا هو بعض ما يشغلهم في دنياهم.. الافتنان في بناء مجالس ألهو والسّمر، والإبداع في تصويرها ونقشها، وجلب كلّ غريب نفيس إليها.. حتى لتبدو كأنها آية في الحسن والجمال.. ومن شأن الآيات أن تثير العقل، وتغذّى الوجدان، وتعلو بالنفس عن مدارج الأرض إلى معارج السماء! ولكن تلك الآيات، التي يبدعها القوم، هى آيات لاهية عابثة، تعلو بحيوانية الإنسان على آدميته، وتنتصر لجسده على روحه! «وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ» .؟
المصانع: الأمكنة الجيدة الصنع، وهي التي للإنسان فيها تقدير وتدبير، كما يقال:«صُنْعَ اللَّهِ» .. ويقال: رجل صنع، أي حاذق الصنعة جيّدها، وامرأة صناع.. والصنيعة: ما يصنع من خير للغير..
وهذا وجه آخر من الوجوه التي يصرف القوم فيها جهدهم، وهو أنهم يجوّدون في صناعة منازلهم وأمتعتهم، وأدوات ركوبهم.. حتى لكأنهم خالدون في هذه الدنيا، لا يموتون أبدا.. فليتهم إذ أجادوا الصنعة وأحسنوا