ففى هذا الطين الذي قد تنبو عنه العين، ويتحاشاه النظر حسن رائع، وجلال مهيب، إذا استطاع الناظر أن ينفذ إلى ما وراء هذا الظاهر الذي يراه، وأن يتجاوز هذه القشرة السوداء المعتمة من الطين.. فإن وراء هذه القشرة، عالما يموج بألوان زاخرة، زاهية من الحياة.. فما هذه الأناسىّ التي تتحرك على ظهر الأرض، وتملأ الحياة حركة وعمرانا، إلا بعض هذا الطين الذي نمشى عليه، وننطلق فوقه!! .. وإذا عجز إدراك الإنسان عن أن يرى في مرآة هذا الطين صورته، ويعرف الرّحم الذي تفتق عنه، فلينظر في وجوه الأرض، وما عليها من ألوان الزهر، وأصناف الشجر، وأنواع الثمر.. «وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ»(٤: الرعد) .
فهذا الطين، ليس في عين ذوى البصائر طينا، جامدا، صامتا، كئيبا، وإنما هو الجمال كله، والحسن كله، تفتقت عنه- بقدرة العزيز الرحيم- هذه الحياة المتدفقة من إنسان، وحيوان، ونبات! فبدء خلق الإنسان من طين، هو نقطة الابتداء، التي يبدأ العقل مسيرته منها، إلى حيث يلتقى بالإنسان في أكمل صورته، وأعظم مواقفه.. وعندئذ يرى كيف تدبير الله، وقدرته، وكيف علمه، وإحسانه، ورحمته.. فما أبعد ما بين الطين والإنسان، فى عين من لا يحسن النظر، ويمعن التفكير، وما أقرب ما بين الطين والإنسان، فى عين من ينظر، فيحسن النظر بعقله وبقلبه جميعا.. فمن هذا الطين، كان الأنبياء والرسل، والقادة، والمصلحون، والعباقرة.. ومن هذا الطين كانت تلك الشموس المضيئة التي زينت الأرض كما زينت الكواكب والنجوم وجه السماء!