إن هذه الفتوحات العظيمة التي حققها العقل الإنسانى فى هذا العصر لهى الشهادة التي لا ترد، على أن الحياة الإنسانية تتجه دائما نحو الأمام، وأنها تضيف كل يوم معارف جديدة إلى معارفها السابقة، وأن رصيدها من المعرفة، يزداد مع الأيام، يوما بعد يوم! فإذا قلنا إن عصر النبوة المحمدية، كان هو العصر الذي بلغت فيه الإنسانية رشدها، وتخطت فيه مرحلة الطفولة والصبا، كان لقولنا هذا مستند من واقع عصرنا هذا الذي يعدّ امتدادا لعصر النبوة.. فإن أربعة عشر قرنا منذ البعثة المحمدية إلى يومنا هذا، لا تعدّ فى عمر الإنسانية إلا يوما من أيام حياتها، وإلا مرحلة أو بعض مرحلة من مراحل وجودها..
يتحدث الجاحظ فى رسالة «حجج النبوة» عن طبيعة الرسالة المحمدية، وأنها تتجه إلى مجتمع إنسانى يأخذ الأمور بمعيار العقل، وينظر فى أعقابها وما تؤول إليه.. فيقول:
«وكذلك وعيد «محمد» بنار الأبد، كوعيد موسى بنى إسرائيل بإلقاء الهلّاس على زرعهم، والهمّ على أفئدتهم، وتسليط الموتان على ماشيتهم وبإخراجهم من ديارهم، وأن يظفر بهم عدوّهم.
«فكان تعجيل العذاب الأدنى- أي القريب- فى استدعائهم واستحالتهم، وردعهم على ما يريد بهم، وتعديل طباعهم- كتأخير العذاب الشديد على غيرهم.. لأن الشديد المؤخّر- من العذاب- لا يزجر إلا أصحاب النظر فى العواقب، وأصحاب العقول التي تذهب فى المذاهب» .. اه..
ويريد الجاحظ أن يقول: إن دعوة محمد كانت إلى مجتمع عاقل، مدرك، ينظر فى عواقب الأمور، كما ينظر العقلاء الراشدون، وليست