الملك، ذو البأس والسلطان، الذي تقوم على حراسته الجنود، والحجّاب..
فبأىّ سلطان دخل عليه هذان الخصمان؟ وكيف نفذا إليه؟ وأين عيون الجند والحرس؟ إن فى ملكه إذن لخللا، وإن فى سلطانه لثغرة يمكن أن ينفذ منها الشر إليه!! ولكن سرعان ما يكشف الخصمان عن شخصيتهما، فيهدئان من روعه، ويقولان له:«لا تخف» !! ومم يخاف وهو السلطان ذو البأس والقوة؟
وهل هما إلا بعض رعاياه؟ وهل يخاف الراعي من رعيته؟ وهو حصن أمنها، وموطن سكنها؟ وإذا كان ثمة خوف فهو خوف الرعية من سلطانها، لا خوف السلطان من رعيته!! إن فى الأمر إذن لشيئا. ويمضى الخصمان يعرضان أمرهما:«خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ» !! ويزداد داود عجبا إلى عجب، من هذا الأمر الصادر من المخصمين إليه:«فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ» هكذا بالأمر! وهل يحكم بغير الحق؟
وهل يتوقعان منه غير هذا؟ وإذا كانا يتوقعان غير ذلك، فهل لهما أن يصدرا إليه هذا الأمر؟ بل هل لهما أن يجهرا بما تحدثهما به نفسهما من جهته؟ إن فى الأمر لأكثر من شىء؟ .. ثم لا يقف أمر الخصمين عند هذا الأمر الصريح لداود بأن يكون عادلا فى حكمه بينهما، بل إنه ليحذّر منهما بألا يشتط فى الجور، إن كان لا يملك أن يعدل أو لا يحسن أن يقيم ميزان العدل مستقيما..
«ولا تشطط» !! تلك هى مقدمات القضية.. أما القضية، فلم يرض الخصمان أن يعرضاها إلا بعد أن اشترطا لنفسهما على داود، أن يكون عادلا فى الحكومة بينهما، وألا يجور فى الحكم.. فإن قبل منهما هذا الشرط، عرضا عليه أمرهما، ورضياه حكما بينهما، وإلا كان لهما شأن آخر معه..! إن الأمر فيما يبدو هو محاكمة لداود، أكثر منه احتكاما إليه؟.