وأكثر من هذا.. لو أن هذا الإنسان اطلع الغيب فرأى- وهو الفقير المعدم- أنه بعد كذا من السنين سينال الغنى الواسع والثراء العريض، وأنه سيشبع من جوع، ويكتسى من عرى، وينال ما يشتهى من متع الدنيا، بعد هذا الحرمان الطويل.. ماذا تراه فى يومه هذا، وهو ينتظر ذلك اليوم الموعود؟
إنه يعيش تلك السنين الفاصلة بينه وبين هذا اليوم، فى عذاب، دونه كل عذاب.. إنه يعدّ الأيام لحظة لحظة، ويدفع مسيرة، الزمن بكل ما فى كيانه من قوى ظاهرة وباطنه.. والزمن قائم فى وجهه، جاثم على صدره، كأنه جبال الدنيا كلها مجتمعة عليه.. إنه يودّ أن ينام نومة أهل الكهف فلا يستيقظ إلا على يومه الموعود.. ولكن أنّى له ذلك، وهو مشدود إلى الحياة، مقيد بقيود الزمن الثقيلة العاتية؟
من رحمة الله علينا إذن كان هذا الذي صنعه الله بنا، فحجب عنّا ما أراده لنا، وما قضاه علينا، فنعمل بإرادة، ونمضى بعزم، ونعيش مع أمل..
فقوله تعالى:«وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ» دعوة للمؤمنين إلى العمل حسب ما يأمرهم الله به، وبين تلك الأوامر الجهاد فى سبيل الله، والثبات فى وجه العدوّ، والعمل على انتزاع النصر منه.. ذلك هو المطلوب من المؤمنين فى مثل هذا الموقف.. أما ما يؤول إليه الأمر، وما يسفر عنه القتال، فذلك علمه عند الله.. وعلى المؤمنين أن يرضوا بما يقع، أيّا كان، بعد أن امتثلوا أمر الله، وأعطوه كل جهدهم.
يقول جعفر الصادق رضى الله عنه لزرارة:«يا زرارة.. أعطيك جملة فى القضاء والقدر؟ قال: نعم، جعلت فداك، قال: «إذا كان يوم القيامة وجمع الله الخلائق، سألهم عما عهد إليهم، ولم يسألهم عما قضى عليهم» ..
وهذه كلمة فيها مقطع القول فى القضاء والقدر، وعلى من يحتجون بالقضاء والقدر.. إنهم مطالبون بما كلّفوا به، وغير مطالبين بما قدّره الله عليهم..