«يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ، وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ، وَصاحِبَتِهِ، وَبَنِيهِ، لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ» يوم، هو الظرف، الذي تجىء فيه هذه الصاخة، المدويّة، المرعبة..
وفى هذا اليوم:«يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ، وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ، وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ.»
يقر من كل هؤلاء الذين كانوا ملاذه، وعونه، وأمنه، طالبا النجاة لنفسه من هذا الهول، الذي لا يدع فرصة لأحد أن ينظر إلى غير نفسه:«لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ» : فكل إنسان فى هذا اليوم همّه الذي يشغله، ويستغرق كل ذرة فى كيانه، فلا يبقى عنده فضل لغيره، ولو كان أحب الناس إليه وآثرهم عندهم.
ومن الإعجاز النفسي للقرآن الكريم فى هذه الآيات، أنه غاص فى أعماق النفس الإنسانية، وأقام مشاعرها على ميزان دقيق محكم، فجاء هذا الترتيب لموقف الإنسان ممن يقر منهم فى زحمة هذا البلاء، حسب درجة شعوره بهم، ووزنه لكل منهم..
إنه يفرّ أولا من الناس جميعا.. جملة واحدة. لا ينظر إلى أحد..
ثم هو يجد نفسه مع أشخاص قد ارتبط بهم ارتباط الجسد بأعضائه.. هم أهله، الذي هو فرع من شجرة جمعتهم وإياه.. أخوه، وأمه وأبوه، وزوجه وبنوه! ثم هو من جهة أخرى محمول بالإكراه- تحت قسوة الموقف- أن يفر منهم جميعا.. ومع أن زحمة الأحداث، وشدة البلاء- لا تدع له فرصة للاختيار، إلا أنه فى لحظة خاطفة، من أجزاء الزمن، أشبه بالذرات- يفرّ منهم على صورة تأخذ هذا الترتيب التصاعدى، القريب، فالأقرب، فمن هو أشد قربا..
فيفر أولا من أخيه، ثم أمه وأبيه، ثم زوجة، ثم يكون آخر من ينفصل عنه