للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فلا يمكنه إفادة غيره. فدافع الحاجات هو الله فلا يستحق العبادة إلا هو وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [الإسراء: ٢٣] .

الثانية: تقديم ذكر الله تعالى يورث الخشية والمهابة حتى لا يلتفت في العبادة يمينا وشمالا بخلاف العكس. (يحكى) أن واحدا من المصارعين الأستاذين صارع بعض من هو دونه ولا يعرفه، فصرع الأستاذ مرارا فقيل له: فلان الأستاذ فانصرع في الحال وما ذاك إلا لاحتشامه بعد عرفانه. وأيضا ذكره تعالى أوّلا مما يورث العبد قوة يسهل بها عليه ثقل العبودية فوجب تقديمه، كما أن من أراد حمل ثقيل يقدم عليه دواء أو غذاء بعينه على ذلك، كما أن العاشق يسهل عليه جميع الآلام عند حضور معشوقه. وأيضا إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ [الأعراف: ٢٠١] فالنفس إذا مسها طائف الشيطان من الكسل والغفلة والبطالة طلع لها جلال الله من مشرق «إياك نعبد» فتصير مبصرة مستعدة لأداء حق العبودية. وأيضا إن بدأ بالعبادة فض إبليس قلبه أن المعبود من هو فيلقي في نفسه وساوس، أما إذا غير هذا الترتيب وقال: «إياك نعبد» كان بعيدا عن احتمال الشرك. وأيضا الواجب لذاته متقدم في الوجود فيناسب أن يكون مقدما في الذكر. وأيضا المحققون نظرهم على المعبود لا على العبادة، وعلى المنعم لا على النعمة، ولهذا قيل لبني إسرائيل اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ [البقرة: ٤٠] ولأمة محمد فَاذْكُرُونِي [البقرة: ١٥٢] فذكر المعبود عندهم أولى من ذكر العبادة.

الثالثة: النون في قوله «نعبد» فيه وجوه من الحكمة منها: أنه تشريف من الله تعالى للعبد حيث لقنه لفظا ينبىء عن التعظيم والتكريم كقوله حكاية عن نفسه نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ [يوسف: ٢] كأنه قال: لما أظهرت عبوديتي ولم تستنكف أن تكون عبدا ليّ جعلناك أمة إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً [النحل: ١٢٠] ومنها أنه لو قال: إياك أعبد كان إخبارا عن كونه عبدا فقط، ولما قال: «إياك نعبد» صار معناه إني واحد من عبيدك، ولا ريب أن الثاني أدخل في الأدب والتواضع. ومنها أن يكون تنبيها على أن الصلاة بالجماعة أولى

قال صلى الله عليه وسلم: «التكبيرة الأولى في صلاة الجماعة خير من الدنيا وما فيها»

وهاهنا نكتة وهي أن الإنسان إذا أكل الثوم أو البصل فليس له أن يحضر الجماعة كيلا يتأذى منه جاره، وإذا كان ثواب الجماعة لا يفي بهذا القدر من الإيذاء فكيف يفي بما هو أكثر من ذلك إيذاء للمسلمين من الغيبة والتهمة والنميمة والسعاية وسائر أنواع الظلم؟ ومنها أن يكون المراد أعبدك والملائكة معي والحاضرون بل جميع عبادك الصالحين. ومنها أن المؤمنين إخوة فكأن الله تعالى قال: لما أثنيت عليّ بقولك «الحمد صلى الله عليه وسلم رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين»

<<  <  ج: ص:  >  >>