المعبودية، ويؤيده أن القصة وردت في نفي الأضداد والأنداد. وأيضا لا يلزم من عدم الأمن المطلق حصول القطع بالعذاب الأبدي. واعلم أن المحاجة في الله تارة تكون موجبة للذم والإنكار كمحاجة قوم إبراهيم، وتارة تكون موجبة للمدح وذلك إذا كان الغرض تقريرا لدين الحق والمذهب الصدق كمحاجة إبراهيم من قوله فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ إلى هاهنا وإليها الإشارة بقوله وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ أرشدناه إليها ووفقناه لها نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ من قرأ بالإضافة فظاهر لأنه رفع يتعدى إلى واحد، ومن قرأ بالتنوين فيكون كقوله وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ [البقرة: ٢٥٣] وقد تقدم في البقرة، واختلف في تلك الدرجات فقيل: أعماله في الآخرة، وقيل: تلك الحجج درجات رفيعة لأنها تقتضي ارتفاع الروح من حضيض العالم الجسماني إلى أعلى العالم الروحاني، وقيل: نرفع من نشاء في الدنيا بالنبوة والحكمة، وفي الآخرة بالجنة والثواب. أو نرفع درجات من نشاء بالحكمة والعلم إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ فيرفع الدرجات بمقتضى الحكمة والعلم لا لموجب التشهي والشهوة.
[التأويل:]
رأى إبراهيم ملكوت الأشياء أي بواطنها ليكون من الموقنين عند كشفها كما كان موقنا عند كشف الضلال المودع في آزر وقومه فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ ظلمة ليل البشرية أمطر سحاب العناية غيث الهداية على أرض قلبه فأنبت بذر الخلة المودعة في ملكوت قلبه، فرأى نور الرشد في صورة الكوكب طالعا من أفق سماء روحانيته فقال: هذا رَبِّي أراد به سره المكوكب لا الكوكب وإن لم يشعر به نفسه كما قيل:
هوى فؤادي ولم يعلم به بدني ... فالجسم في غربة والروح في وطن
فإن كذبت النفس فيما قالت للكوكب «هذا ربي» ما كذب الفؤاد ما رأى من الكوكب.
فقال هذا رَبِّي فلما احتجب كوكب نور الرشد بغلبات صفات الخلقية عند رجوعه إلى أوصافه ووافقه كوكب السماء بالغروب قال سره لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ فلما اتسع انفتاح روزنة القلب إلى الملكوت بقدر القمر تجلى له نور الربوبية في مرآة القمر قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ عند رجوعه إلى أوصافه ازداد الشوق قال إن لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي برفع حجب الأوصاف ويبقني على وجود الخليقة لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ عن الحق كآزر وقومه. فلما انخرقت حجب الأوصاف وخرجت شمس الهداية من غيم البشرية، وأشرقت أرض القلب بنور ربها قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ شمس الهداية تعززا وتعظما ليغرب إبراهيم عليه السلام عن شرك الأنانية.
إن شمس النهار تغرب بالليل ... وشمس القلوب ليست تغيب.