يظهرون الإشفاق على المسلمين قبل شدة القتال، فإذا جاء البأس ارتعدت فرائصهم وتدور أعينهم كدوران عين من يغشى عليه من سكرات الموت. وقيل: أراد أنهم يبخلون بأموالهم وأنفسهم فلا يبذلونهما في سبيل الله فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ وجمعت الغنائم سَلَقُوكُمْ أي بسطوا إليكم ألسنتهم قائلين وفروا قسمتنا فإنا قد شاهدناكم وقاتلنا معكم وبنا نصرتم وبمكاننا غلبتم عدوكم، فهم عند البأس أجبن قوم وأخذلهم للحق، وأما عند حيازة الغنيمة فأشحهم وأوقعهم والحداد جمع حديد، وكرر أشحة لأن الأول مطلق والثاني مقيد بالخير وهو المال والثواب أو الدين أو الكلام الجميل. أُولئِكَ المنافقون لَمْ يُؤْمِنُوا حقيقة وإن آمنوا في الظاهر فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ التي لها صورة الصلاح بأن أعلم المسلمين أحوال باطنهم وَكانَ ذلِكَ الذي ذكر من أعمال أهل النفاق يَسِيراً على الله لا وزن لها عنده أو وكان ذلك الإحباط عليه سهلا. قال في الكشاف: لأن أعمالهم حقيقة بالإحباط تدعو إليه الدواعي ولا يصرف عنه صارف. ويمكن أن يقال: إعدام الجواهر هين على الله فإعدام الإعراض ولا سيما بمعنى عدم اعتبار نتائجها أولى بأن يكون هينا. ثم قرر طرفا آخر من جبنهم وهو أنهم يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا وقد ذهبوا فانصرف المنافقون إلى المدينة منهزمين بناء على هذا الحسبان. ومن جملة جبنهم وضعف احتمالهم أنه إِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ كرة ثانية تمنوا أَنَّهُمْ بادُونَ أي خارجون إلى اليد وحاصلون فيما بين الأعراب حذرا من عيان القتال فيكون حالهم إذ ذاك أنهم يسئلون عن أخباركم قانعين من العيان بالأثر ومن الحضور بالخبر وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ولم ينصرفوا إلى المدينة وكان قتال لم يقاتلوا إِلَّا قَلِيلًا
إبداء للعذر على سبيل الرياء والضرورة.
[التأويل:]
«اتق الله» من التكوين وكان عليه السلام متقيا من الأزل إلى الأبد، وكذا الكلام فيما يتلوه من النواهي والأوامر ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ لأن القلب صدف درة المحبة ومحبة الله لا تجتمع مع محبة الدنيا والهوى وغيرهما، فالقلب واحد كما أن المحبة واحدة والمحبوب واحد وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ ووَ ما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ فيه أن الحقائق لا تنقلب لا عقلا ولا طبعا ولا شرعا وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ من معرفة الأنساب فإن النسب الحقيقي ما ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فإنه النسب الباقي كما
قال «كل حسب ونسب ينقطع إلا حسبي ونسبي»
فحسبه الفقر ونسبه النبوة وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ بقطع الرحم عن النبوة بترك سنته وسيرته النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ لأنهم لا يقتدرون على توليد أنفسهم في النشأة الثانية كما لم يقدروا على توليد أنفسهم في النشأة الأولى، وكان أبوهم أحق بهم من أنفسهم في توليدهم من صلبه وأزواجه وهن