يجوز أن تورد القوة الغاذية بدلها؟ فأجابوا بأن القوة الغاذية لا تفي بإيراد البدل. قال الإمام فخر الدين الرازي رادا عليهم: إن القوة الغاية إنما تعجز عن هذا الإيراد إذا كانت الحرارة الغريزية ضعيفة وذلك ممنوع، وإنما تكون الحرارة الغريزية ضعيفة أن لو قلت الرطوبة الغريزية، وإنما تحصل هذه القلة إذا عجزت الغاذية عن إيراد البدل وهذا دور محال، فيثبت أن إسناد هذه الأحوال إلى الطبائع والقوى غير ممكن فيتعين إسنادها إلى القادر المختار الحكيم، ولهذا ختم الآية بقوله: إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ يعلم مقادير المصالح والمفاسد ويقدر على تحصيلها كما يريد. وأما الطبيعة فجاهلة عاجزة. قلت: لا شك أن نسبة هذه الأمور إلى مجرد الطبيعة كفر وجهل، لأنها ليست واجبة الوجود بالاتفاق ولكن إنكار القوى والطبائع أيضا بعيد عن الإنصاف. والحق أنها وسائط وآلات لما فوقها من المبادئ والعلل إلى أن ينتهي الأمر
إلى مسبب الأسباب ومبدأ الكل، وقد ثبت عند الحكيم أن كل قوة جسمانية فإنها متناهية الأثر فلا محالة تعجز القوة الغاذية آخر الأمر عن إيراد بدل ما يتحلل فيحل الأجل بتقدير العليم القدير.
[التأويل:]
وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النفوس الناسية بما ظلمت على القلوب والأرواح ما تَرَكَ عَلى أرض البشرية صفة من صفات الحيوانية. ولكن يؤخر أهل السعادة إلى أجلهم وهو إفناء صفات النفس بصفات القلب والروح في حينه وأوانه، ويؤخر أهل الشقاء إلى أوان العكس من ذلك. وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ أي يعاملون الله بأعمال يكرهون أن يعاملهم بها غيرهم وتسوّل لهم أنفسهم أن تلك المعاملة حسنة. والله أنزل من سماء العزة ماء بيان القرآن فأحيا به أرض قلوب الأمم بعد موتها باختلافهم على أنبيائهم إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ كلام الله من الله وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ النفوس لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ الخاطر الشيطاني وَدَمٍ الخاطر النفساني لَبَناً خالِصاً من الإلهام الرباني سائِغاً لِلشَّارِبِينَ جائزا لأهل هذا الشرب وَمِنْ ثَمَراتِ نخيل الطاعات وأعناب المجاهدات تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً هو ما يجعل منها شرب النفس فتسكر النفس فتارة تميل عن الحق والصراط المستقيم ميلان السكران، وتارة تظهر رعوناتها بالأفعال والأحوال رياء وسمعة وشهوة. والرزق الحسن ما يكون منه شرب القلب والروح فيزداد منه الشوق والمحبة والصدق والطلب:
شربت الحب كأسا بعد كأس ... فما نفد الشراب وما رويت
وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ إشارة إلى حال السالك السائر أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً أراد الاعتزال عن الخلق والتبتل إلى الله. كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحنث في غار حراء