المراد لا أدّعي فوق منزلتي. قال القاضي: إن كان الغرض التواضع فالأقرب أن ذلك يدل على أن الملك أفضل، وإن كان المراد نفي قدرته عن أفعال لا يقوى عليها إلا الملائكة لم يدل على أفضلية الملائكة. إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ قيل: هذا النص يدل على أنه صلى الله عليه وسلم لم يحكم من تلقاء نفسه بالاجتهاد في شيء من الأحكام، ولا يجوز لأحد من أمته أن يعمل إلا بالوحي النازل عليه لقوله تعالى فَاتَّبِعُوهُ [الأنعام: ١٥٣] فلا يجوز العمل بالقياس، وأكد هذا الحكم بقوله قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وذلك أن العمل بغير الوحي يجري مجرى عمل الأعمى، والعمل بمقتضى الوحي يقوم مقام عمل البصير. ثم قال أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ تنبيها على أنه يجب على العاقل أن يعرف الفرق بين هذين. وأجيب بأن أصل الاجتهاد والقياس إذا كان بالوحي لم يلزم الضلالة، والآية مثل للضال والمهتدي أو لمن ادعى المستقيم وهو النبوة والمحال وهو الإلهية والملكية أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ فلا تكونوا ضالين كالعميان، أو فتعلموا أني ما ادعيت سوى ما يليق بالبشر والله تعالى أعلم وأحكم.
[التأويل:]
وَما مِنْ دَابَّةٍ تدب في أرض البشرية وتتحرك من الحواس والجوارح والنفس وصفاتها إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ في السؤال عن أقوالهم وأحوالهم كقوله إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا [الإسراء: ٣٦] ما فَرَّطْنا ما تركنا في القرآن من شيء يحتاج إليه الإنسان ظاهره وباطنه، ذاته وصفاته في السير إلى الله من الأوامر والنواهي والندب والآداب. ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ هاهنا بالسير وجذبات العناية، أو هناك بالسلاسل والأغلال يسحبون في النار في نار القطيعة على وجوههم لأن من شأنهم التكذيب كما قال وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا بدلائلنا الموصلة إلينا صُمٌّ آذان قلوبهم عن استماع الحق بُكْمٌ ألسنة أحوالهم عن إجابة دعوة الحق في ظلمات صفات البشرية والأخلاق الذميمة.
بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ لأن رجوعه إلى ربه مركوز في روحانيته. وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ أي أرسلنا إليهم نعمة الصحة والكفاف والأمن فشغلوا بها عنا، فأرسلنا إليهم بالبراهين القاطعة والحجج الساطعة ندعوهم بها إلينا فلم يهتدوا فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ التي هي موجبة للإلجاء. فَلَوْلا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وعلموا أن حقائق ألطافنا مدرجة في دقائق صور قهرنا، وتحققوا أن درر محبتنا مستودعة في أصداف شدائد بأسنا، فاستقبلوها بصدق الالتجاء وحسن التضرع في الدعاء. فَلَمَّا نَسُوا بسبب القساوة ما ذُكِّرُوا بِهِ من معارضة البأساء والضراء فإنها تذكر أيام الرخاء وتعرّف قدر الصحة والنعماء وتؤدي إلى رؤية المنعم فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ من البلاء في صورة النعماء لأرباب الظاهر بالنعم الظاهرة من المال والجاه والقبول وأمثالها، ولأرباب الباطن بالنعم الباطنة من فتوحات